سورة الشُّورَى
تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
مقاصد الوحي الإلهي
وحدة الأديان في أصولها
الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين
حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة
مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته
صفات المؤمنين المستقيمين
النار وحال الكفار منها
الاستجابة لله عز وجل
الوحي وأقسامه
بَين يَدَي السُّوَرة
* هذه السورة الكريمة مكية، وموضوعها نفس موضوع السور المكية التي تعالج أمور العقيدة "الوحدانية، الرسالة، البعث، والجزاء" والمحور الذي تدور عليه السورة هو "الوحي والرسالة" وهو المقصد الأساسي للسورة الكريمة.
* تبتدئ السورة بتقرير مصدر الوحي، ومصدر الرسالة، فاللهُ ربُّ العالمين هو الذي أنزل الوحي على الأنبياء والمرسلين، وهو الذي اصطفى لرسالاته من شاء من عباده، ليخرجوا الإِنسانية من ظلمات الشرك والضلال، إلى نور الهداية والإِيمان.
* ثم تعرض لحالة بعض المشركين، ونسبتهم لله الذرية والولد، حتى إنَّ السماوات ليكدْن يتفطرن من هول تلك المقالة الشنيعة، وبينما هؤلاء المشركون في ضلالهم يتخبطون، إذا بالملأ الأعلى في تسبيحهم وتمجيدهم لله يستغرقون، وذلك للمقارنة بين كفر أهل الأرض وطغيانهم، وإِيمان أهل السماء وإِذعانهم.
* ثم تعود السورة للحديث عن حقيقة الوحي والرسالة، فتقرر أن الدين واحدٌ أرسل الله تعالى به جميع المرسلين، وأن شرائع الأنبياء وإِن اختلفت إلاَّ أن دينهم واحد، وهو الإِسلام الذي بعث به نوحاً وموسى وعيسى وسائر الرسل الكرام {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى}.
* وتنتقل السورة للحديث عن المكذبين بالقرآن، المنكرين للبعث والجزاء، وتنذرهم بالعذاب الشديد في يومٍ تشيب له الرؤوس وتطير لهوله الأفئدة، بينما هم في الدنيا يهزؤون ويسخرون، ويستعجلون قيام الساعة.
* وبعد أن تتحدث السورة عن دلائل الإِيمان في هذا العالم المنظور، الذي هو أثر من آثار صنع الله الباهر وحكمته وقدرته، تدعو الناس إلى الاستجابة لدعوة الله والانقياد والاستسلام لحكمه قبل أن يفاجئهم ذلك اليوم العصيب، الذي لا ينفع فيه مال ولا قريب {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}.
* وتختم السورة بالحديث عن الوحي وعن القرآن، كما بدأت به في مطلع السورة الكريمة، ليتناسق الكلام في البدء والختام {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ..} الآية.
التسميـَـة:
سميت "سورة الشورى" تنويهاً بمكانة الشورى في الإِسلام، وتعليماً للمؤمنين أن يقيموا حياتهم على هذا المنهج الأمثل الأكمل "منهج الشورى" لما له من أثر عظيم جليل في حياة الفرد والمجتمع كما قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }.
تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
{حم(1)عسق(2)كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4)تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(5)وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(6)}
{حم* عسق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي له ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي تكاد السماواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين، قال في ابن جزي: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى {ويستغفرون للَّذين ءامنوا} {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي ألاَ فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم، قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إِنما أنت منذرٌ فحسب.
مقاصد الوحي الإلهي
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصل كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهم المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشقياء وسعداء كقوله تعالى {فمنهم شقيٌ وسعيدٌ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام، قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله، قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جل وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً دون من سواه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلى الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري، قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلكم الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه، قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً .. ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأنثى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ، وقال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله - جلَّ اسمُه - في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم - عزَّ وجلَّ - بخلاف صفات المخلوق، وإِذْ صفاتُهم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإِلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إِذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر.
وحدة الأديان في أصولها
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ(13)وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)}
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليهما السلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام، قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فتبيَّن أن شرعنا - معشر الأمة المحمدية - قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق - دين الإِسلام - الذي هو توحيدُ الله وطاعتهُ، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء، قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه ولا اضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها، فهذا كله مشروع ديناً واحداً وملة متحدة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظُم وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإِكراماً {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم، قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد أسلافهم السابقين {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإِنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان، قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق.
الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(15)وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (16):
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..}: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلامَ تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} الآية.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي فلأجل ذلك التفرق الذي حدث لأهل الكتاب، أمرناك يا محمد أن تدعو الناس إلى دين الحنيفية السمحة، الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه والزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد {وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي صدَّقت بكل كتاب أنزله الله تعالى، قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم ءامنوا ببعضٍ وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم، قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم، قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى {وإِن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريءٌ مما تعملون} {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإِن الحقَّ قد ظهر وبَانَ، كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر، قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله، قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإِضلالهم ومحاجتهم بالباطل {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذابٌ شديد في الآخرة {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ} أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره {والميزان} أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف قاله ابن عباس، قال المفسرون: وسمي العدلُ ميزاناً لأن الميزان يحصل به العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قريب؟ فإِن الواجب على العاقل أن يحذر منها، ويستعدَّ لها، قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يصدّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ {وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي والمؤمنون المصدّقون بها خائفون وجلون من قيامها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي ويعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي الذين يجادلون في أمر القيامة في ضلال بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم، قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي يوسِّع الرزق على من يشاء، قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمة، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليمتحن الغنيَّ بالفقير، والفقير بالغني كقوله تعالى {وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرون} {وَهُوَ الْقَوِيُّ} أي القادر على كل ما يشاء {العَزِيزُ} أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع.
حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21)تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25)وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)}
سبب النزول:
نزول الآية (23):
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ..}: قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمداً فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودة أقربائه.
ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعليه أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم، قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن من عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه، وقال ابن جزي: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}؟ الاستفهام للتقرير والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آلهة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإِسنادُ الشرع إلى الأوثان وهي جمادات إسنادٌ مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للمشاكلة والتهكم {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم عذابٌ موجع مؤلم {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي ترى أيها المخاطب الكافرين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي والمؤمنون الصالحون في رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم، قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء، قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جل وعلا إذا قال "كبير" فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي، قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤدوني بما بيني وبينكم من القرابة، قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وتودُّوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب على الله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل الصدق والأمانة {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قلبك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك، قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم، وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعلمه الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هو جل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإخلاص نيّة {وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين، قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وإِذا كالوهم} أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم.
مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ(30)وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(31)وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ(32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(33)أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34)وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءامنوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(36)}.
سبب النزول:
نزول الآية (27):
{وَلَوْ بَسَطَ }: أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصُّفَّة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبَّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية - أي في أهل الصفَّة - وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
نزول الآية (36):
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ}: عن علي رضي الله عنه: تصدَّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفاً.
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغنى يوجب الطغيان، قال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش ما لا يُلهيك ولا يُطغيك {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما جاء في الحديث القدسي (إنَّ من عبادي من لا يصلحُه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه) {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السماوات والأرض بهذا الشكل البديع {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} أي وما نشر وفرَّق في السموات والأرض من مخلوقات، قال ابن كثير: هذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم، وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي وإنّ ما أصابكم أيها الناس من المصائب في النفس أو المال فإِنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي ويصفح عن كثير من الذنوب فلا يعاقبكم عليها، ولو آخذكم بكل ما كسبتم لهلكتم وفي الحديث (لا يصيب ابن آدم خدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفو عنه أكثر) {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البحر لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكل مؤمن صابر في البأساء، شاكرٍ في الرخاء، قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا، وقال أبو حيان: وإِنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإِذا أراد أن ترسو أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله، قال القرطبي: أي ليعلم الكفار إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإِنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدنيا وما فيها، لأنَّ نعيم الاخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي {لِلَّذِينَ ءامنوا} أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على تلك الملاذ في الدنيا {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم.
صفات المؤمنين المستقيمين
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40)وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42)وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(43)}.
سبب النزول:
نزول الآية (37):
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا..} قيل: نزلت في عمر حين شُتم بمكة، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شُتم فحلُم.
نزول الآية (38):
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا..}: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
نزول الآيات (41 - 43):
ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضاً في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {وَالْفَوَاحِشَ} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا، قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي "من استُغضب ولم يغضب فهو حمار" وقال الشاعر: "وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل" {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة، قال البيضاوي: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله بالإِحسان إلى خلق الله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون لظلم المعتدي، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل،وهذا لا ينافيوصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل، قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث (وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا زاده عزاً) {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي إنه جل وعلا يبغض البادئين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً، بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي أمر الله بها وأكد عليها، قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمود العاقبة.
النار وحال الكفار منها
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ(45)وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ(46)}.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عز وجل فلا يجابون {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ } أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه، قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل، وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف {وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق