سورة فصلت
التسميَــة
إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
دلائل قدرته ووحدانيته
تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود
الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة
حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن
وعد الله لأهل الاستقامة
آداب الدعاة إلى الله
دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة
توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين
تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق
علم الساعة مختص بالله تعالى
الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال
التأمل في مخلوقات الله يوصل إلى الحق
بَين يَدَي السُّورَة
هذه السورة الكريمة مكية، وهي تتناول جوانب العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" وهي الأهداف الأساسية لسائر السور المكية التي تهتم بأركان الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن، المنزَّل من عند الرحمن، بالحجج الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، فهو المعجزة الدائمة الخالدة للنبي الكريم.
* وتحدثت السورة عن أمر "الوحي والرسالة" فقررت حقيقة الرسول، وأنه بشرٌ خصَّه الله تعالى بالوحي، وأكرمه بالنبوة، واختاره من بين سائر الخلق ليكون داعياً إلى الله، مرشداً إلى دينه المستقيم.
* ثم انتقلت السورة للحديث عن مشهد الخلق الأول للحياة، خلق السماواتِ والأرض، بذلك الشكل الدقيق المحكم، الذي يلفت أنظار المعرضين عن ءايات الله، للنظر والتفكر والتدبر، ولكنَّ ظلمات الكفر هي التي تحول بينهم وبين الإِيمان، فالكون كله ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جل وعلا.
* وعرضت السورة للتذكير بمصارع المكذبين، وضربت على ذلك الأمثلة بأقوى الأمم وأعتاها، قوم عاد الذين بلغ من جبروتهم أن يقولوا {من أشدُّ منَّا قوة}؟ وذكرت ما حلَّ بهم وبثمود من الدمار الشامل، والهلاك المبين، حين تمادوا في الطغيان وكذبوا رسل الله.
* وبعد الحديث عن المجرمين يأتي الحديث عن المؤمنين المتقين، الذين استقاموا على شريعة الله ودينه، فأكرمهم الله بالأمن والأمان في دار الجنان، مع النبيّين والصدّيقين، والشهداء والصالحين.
* ثم تحدثت السورة عن الآيات الكونية المعروضة للأنظار، في هذا الكون الفسيح، الزاخر بالحكم والعجائب، وموقف الملحدين بآيات الله، المتعامين عن كل تلك الآيات الظاهرة الباهرة.
وختمت السورة بوعد الله للبشرية، بأن يطلعهم على بعض أسرار هذا الكون في آخر الزمان، ليستدلوا على صدق ما أخبر عنه القرآن {سنريهم ءاياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبيَّن لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.
التسميَــة:
سميت "سورة فصّلت" لأن الله تعالى فصَّل فيها الآيات، ووضَّح فيها الدلائل على قدرته ووحدانيته، وأقام البراهين القاطعة على وجوده وعظمته، وخلقه لهذا الكون البديع الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه!
إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
{حم(1)تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7)إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(
}
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن المجيد منزَّل من الرحمن الرحيم، أنزله جل وعلا رحمة بعباده، وإِنما خصَّ هذين الاسمين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن نزوله من أكبر النعم، ولا شك أن القرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة {كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي كتابٌ جامع للمصالح الدينية والدنيوية، بُيِّنت معانيه، ووُضِّحت أحكامه، بطريق القصص والمواعظ والأحكام والأمثال، في غاية البيان والكمال {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي في حال كونه قرآناً عربياً، واضحاً جلياً نزل بلسان العرب {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقومٍ يفهمون تفاصيل ءاياته، ودلائل إعجازه، فإِنه في أعلى طبقات البلاغة، ولا يتذوق أسراره إلا من كان عالماً بلغة العرب {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي فأعرض أكثر المشركين عن تدبر ءاياته مع كونه نزل بلغتهم، فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل، قال أبو حيان: المعنى أعرض أكثر أولئك القوم مع كونهم من أهل العلم، ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا، فهم لإِعراضهم لا يسمعون ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، وقال القرطبي: السورةُ نزلت تقريعاً وتوبيخاً لقريش في إِعجاز القرآن، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به، ثم أخبر تعالى عن عتوهم وضلالهم فقال {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإِيمان: قلوبنا في أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيءٌ مما تدعون إليه من التوحيد والإِيمان {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي وفي آذاننا صممٌ وثقلٌ يمنعنا من فهم ما تقول، قال الصاوي: شبهوا أسماعهم بآذانٍ فيها صمَمٌ، من حيث إنها تمجُّ الحقَّ ولا تميل إلى استماعه {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي وبيننا وبينك يا محمد حاجز يمنع أن يصل إلينا شيء مما تقول، فنحن معذورون في عدم اتباعك، لوجود المانع من جهتنا وجهتك {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي اعملْ أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا، واستمرَّ على دينك فإِنا مستمرون على ديننا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لأولئك المشركين: لستُ إلا بشراً مثلكم خصّني الله بالرسالة والوحي، وأنا داعٍ لكم إلى توحيد خالقكم وموجدكم، الذي قامت الأدلة العقلية والشرعية على وحدانيته ووجوده، فلا داعي إلى تكذيبي {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي توجهوا إليه بالاستقامة على التوحيد والإِيمان، والإِخلاص في الأعمال، واسألوه المغفرة لسالف الذنوب {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي دمارٌ وهلاك للمشركين الذين لا يفعلون الخير، ولا يتصدقون ولا ينفقون في طاعة الله، قال القرطبي: قرَّعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفي الآية دلالة على أن الكافر يُعذَّب بمنع الزكاة مع عذابه على كفره، وقال ابن عباس: المراد زكاة الأنفس والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، ولا يقولون لا إله إلا الله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي كفروا بالبعث والنشور، وكذَّبوا بالحساب والجزاء، قال الصاوي: وإِنما خصَّ منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة، لأن المال شقيق الروح فإِذا بذله الإِنسان في سبيل الله كان دليلاً على قوته وثباته في الدين {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لما ذكر حال الكفار ووعيدهم، أردفه بذكر حال المؤمنين وما لهم من الوعد الكريم والمعنى الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، لهم في الآخرة أجرٌ غير مقطوع عند ربهم، بل هو دائم مستمر بدوام الجنة.
دلائل قدرته ووحدانيته
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإِلهُ العليُّ الشأن، القادر على كل شيء، خالقُ الأرض في يومين؟ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} أي تجعلون له شركاء وأمثالاً تعبدونها معه {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ذلك الخالق المبدع هو ربُّ العالمين كلهم، فكيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإِلهية والمعبودية؟ قال الصاوي: الاستفهام {أَئِنَّكُمْ} للإِنكار والتشنيع عليهم والمعنى : أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً ؟ {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي جعل في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بالبشر {وَبَارَكَ فِيهَا} أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه، والزروع، والضروع {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي قدَّر أرزاق أهلها ومعاشهم، قال مجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}أي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي عمد إلى خلقها وقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان، قال ابن كثير: والمراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي قالت السماوات والأرض أتينا أمرك طائعين، قال الزمخشري: وهذا على التمثيل أي أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المُطاع، والغرضُ تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير أن يكون هناك خطاب وجواب، ومثله قول القائل: قال الحائطُ للمسمار لم تشقني؟ قال: سلْ من يدُقُّني، وروي عن ابن عباس قال: قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين "قالتا أتينا أمرك طائعتين" واختاره ابن جرير {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي صنعهنَّ وأبدع خلقهن سبع سماواتٍ في وقت مقدَّر بيومين، فتمَّ خلق السماواتِ والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقهنَّ بلمح البصر، ولكنْ أراد أن يعلّم عباده الحلم والأناة {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي أوحى في كل سماء ما أراده، وما أمر به فيها، قال ابن كثير: أي رتَّب في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} أي وزينَّا السماءَ الأولى القريبة منكم، بالكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، وحرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك المذكور من الخلق والإِبداع هو صنع الله، العزيز في ملكه، العليم بمصالح خلقه.
تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13)إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14)فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ(16)وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(18)}.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بعد هذا البيان، فقل لهم: إني أخوفكم عذاباً هائلاً وهلاكاً مثل هلاك عاد وثمود، وعبَّر بالماضي إشارةً إلى تحققه وحصوله {إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي حين جاءتهم الرسلُ من كل جوانبهم، واجتهدوا في هدايتهم من كل جهة، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوَّ والإِعراض {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي بأن لا تعبدوا إلاّ اللهَ وحده {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو شاء ربُّنا إرسالَ رسولٍ لجعله ملكاً لا بشراً {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي فإِنا كافرون برسالتكم، لا نتبعكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، وفي قولهم {بما أُرسلتم} ضربٌ من التهكم والسخرية بهم {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هذا تفصيلٌ لما حلَّ بعاد وثمود من العذاب أي فأمَّا عادٌ فبغوا وعتوا وعصوا، وتكبروا على عباد الله "هود" ومن ءامن منهم معه، بغير استحقاقٍ للتعظم والاستعلاء {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ أي وقالوا اغتراراً بقوتهم لمّا خُوّفوا بالعذاب: لا أحد أقوى منا فنحن نستطيع أن ندفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا، قال أبو السعود: كانوا ذوي أجسام طوال، وخلق عظيم، وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} جملة اعتراضية للتعجيب من مقالتهم الشنيعة والمعنى أغفلوا عن قدرة الله ولم يعلموا أن الله العظيم الجليل الذي خلقهم وخلق الكائنات، هو أعظم منهم قوةً وقدرة؟ {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكانوا بمعجزاتنا يجحدون، قال الرازي: إنهم كانوا يعرفون أنها حقٌّ ولكنهم جحدوا كما يجحد المودعُ الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أي فأرسلنا على عاد ريحاً باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، تُهلك بشدة صوتها وبردها {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} أي في أيامٍ مشئومات غير مباركاتٍ {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لكي نذيقهم العذاب المخزي المذل في الدنيا، قال الرازي: {عَذَابَ الْخِزْيِ} أي عذاب الهوان والذل، والسبب أنهم استكبروا عن الإِيمان، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل والهوان إليهم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} أي ولعذابهم في الآخرة أعظم وأشدُّ إهانةً وخزياً من عذاب الدنيا، وليس لهم ناصر يدفع عنهم ذلك العذاب {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي وأمَّا ثمود فبيّنا لهم طريق الهدى، ودللناهم على سبيل السعادة، فاختاروا الضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} أي فأخذتهم قارعة العذاب الموقع في الإِهانة والذل {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب إجرامهم وطغيانهم وتكذيبهم لنبيّ الله "صالح"، قال ابن كثير: بعث الله عليهم صيحةً ورجفة وذلاً وهواناً، وعذاباً ونكالاً، بتكذيبهم صالح وعقرهم الناقة {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي ونجينا صالحاً ومن ءامن به من ذلك العذاب.
الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19)حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20)وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(24)وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ(25)}.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} أي واذكر يوم يُجمع أعداء الله المجرمون في أرض المحشر لسوقهم إلى النار {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، قال ابن كثير: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أي حتى إذا وقفوا للحساب {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي نطقت جوارحهم وشهدت عليهم بما اقترفوه من إجرامٍ وآثام، وفي الحديث (فيُختم على فيه - أي فمه - ثم يُقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل) {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي وقالوا لأعضائهم وجلودهم توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر الغريب: لم أقررتم علينا وشهدتم بما فعلنا وإِنما كنا نجادل وندافع عنكم؟ {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي قالوا معتذرين: ليس الأمر بيدنا وإِنما أنطقنا الله بقدرته، الذي ينطق الجماد والإِنسان والحيوان، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هو أوجدكم من العدم، وأحياكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، فمن قدر على هذا قدر على إِنطاقنا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده تُردون بالبعث، قال أبو السعود: المعنى ليس نطقنا بعجبٍ من قدرة الله، الذي انطق كل حي، فإِن من قدر على خلقكم وإِنشائكم أولاً، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانياً، لا يُتعجب من إِنطاقه لجوارحكم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} أي وما كنتم تستخفون من هؤلاء الشهود في الدنيا حين مباشرتكم الفواحش، لأنكم لم تظنوا أنها تشهد عليكم، قال البيضاوي: أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضيحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم فما استخفيتم منها، وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن ينبغي ألاَّ يمر عليه حالٌ إلا وعليه رقيب {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي ولكنْ ظننتم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من القبائح المخفية، ولذلك اجترأتم على المعاصي والآثام {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي وذلك الظنُّ القبيح برب العالمين - أنه لا يعلم كثيراً من الخفايا - هو الذي أوقعكم في الهلاك والدمار فأوردكم النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فخسرتم سعادتكم وأنفسكم وأهليكم، وهذا تمام الخسران والشقاء {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي فإِن يصبروا على العذاب فالنارُ مقامهم ومنزلهم، لا محيد ولا محيص لهم عنها {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإِن يطلبوا إرضاء الله، فما هم من المرضي عليهم، قال القرطبي: والعُتبى: رجوعُ المعتوب عليه إلى ما يُرضي العَاتب، تقول: استَعتبتُه فأعْتبني أي استرضيتُه فأرضاني {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أي هيأنا للمشركين ويسَّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين، ومن غواة الإِنس {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي حسَّنوا لهم أعمالهم القبيحة، الحاضرة والمستقبلة، قال ابن كثير: حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين {وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} أي ثبت وتحقق عليهم كلمة العذاب، وهو القضاء المحتَّم بشقائهم {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} أي في جملة أمم من الأشقياء المجرمين قد مضت من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم من الجنِّ والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} تعليلٌ لاستحقاقهم العذاب أي لأنهم كانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فلذلك استحقوا العذاب الأبدي.
حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(27)ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(28)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ(29)}
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} لما أخبر تعالى عن كفر عاد وثمود وغيرهم، أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن والمعنى قال الكافرون بعضهم لبعض لا تستمعوا لمحمد إذا قرأ القرآن، وتشاغلوا عنه {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي ارفعوا أصواتكم عند قراءته حتى لا يسمعه أحد لكي تغلبوه على دينه، قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاء الكفار المستهزئين بالقرآن عذاباً شديداً لا يخف ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنجازينهم بشر أعمالهم، وسيء أفعالهم، أسوأ وأقبح الجزاء {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} أي ذلك العذاب الشديد - الذي هو أسوأُ الجزاء - هو نار جهنم جزاء المجرمين، أعداء الله ورسوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} أي لهم في جهنم دار الإِقامة، لا يخرجون منها أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي جزاءً لهم على كفرهم بالقرآن، واستهزائهم بآيات الرحمن، قال الرازي: وسمَّى لغوهم بالقرآن جحوداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغٌ إلى حد الإِعجاز، خافوا إنْ سمعه الناس أن يؤمنوا به، فاخترعوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوه حسداً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ربَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} أي ويقول الكفار إذا دخلوا جهنم ربنا أرنا كل من أغوانا وأضلنا من الجن والإِنس، وإِنما جاء بلفظ الماضي "وقال" لتحققه، ومعناه المستقبل، قال أبو حيان: والظاهر أن المراد بـ {الَّذَيْنِ} يراد بهما الجنس أي كل مغوٍ من هذين النوعين {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي نطأْهما بأقدامنا انتقاماً وتشفياً {لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} أي ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وهي أشد عذاب جهنم لأنها درك المنافقين.
وعد الله لأهل الاستقامة
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)}.
سبب النزول:
نزول الآية (30):
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، فاستقام.
وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: "قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام".
ولما ذكر تعالى حال الأشقياء المجرمين، أردفه بذكر حال السعداء المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي ءامنوا بالله إِيماناً صادقاً وأخلصوا العمل له، ثم استقاموا على توحيد الله وطاعته، وثبتوا على ذلك حتى الممات، عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد أن تلا الآية الكريمة: "استقاموا واللهِ على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب" والغرضُ: أنهم استقاموا على شريعة الله، في سلوكهم، وأخلاقهم وأقوالهم، وأفعالهم، فكانوا مؤمنين حقاً، مسلمين صدقاً، وقد سئل بعض العارفين عن تعريف الكرامة فقال: الاستقامةُ عينُ الكرامة، وعن الحسن أنه كان يقول: اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} أي تتنزل عليهم ملائكة الرحمة عند الموت بأن لا تخافوا ممَّا تقدمون عليه من أحوال القيامة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه في الدنيا من أهلٍ ومالٍ وولد فنحن نخلفكم فيه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي وأبشروا بجنة الخلد التي وعدكم الله بها على لسان الرسل، قال شيخ زاده: إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة أن لا تخافوا من هول الموت، ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإِن المؤمن ينظر إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، وإِنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها فلا تهولنك فإِنما يراد بها غيرك {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي تقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم وأعوانكم في الدنيا والآخرة، نرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي ولكم في الجنة ما تشتهيه نفوسكم، وتقرُّ به عيونُكم من أنواع اللذائذ والشهوات، ولكم فيها ما تطلبون وتتمنون {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي ضيافة وكرامة من ربٍ واسع المغفرة، عظيم الرحمة لعباده المتقين.
آداب الدعاة إلى الله
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)}.
سبب النزول:
نزول الآية (33):
{وَمَنْ أَحْسَنُ..}: قال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نِحْلة: وقال أيضاً: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نزول الآية (34):
{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ..}: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوّاً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ولياً مصافياً.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإِسلام دينه ومذهبه، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتدٍ، وقال الزمخشري: والآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون مؤمناً معتقداً لدين الإِسلام، عاملاً بالخير، داعياً إليه، وما هم إلا طبقة العلماء العاملين {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي لا يتساوى فعل الحسنة مع فعل السيئة، بل بينهما فرقٌ عظيم في الجزاء وحسن العاقبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِساءة بالعفو، قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي فإِذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب، الخالص الصداقة في مودته ومحبته لك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي وما ينال هذه المنزلة الرفيعة، والخصلة الحميدة، إلاّ من جاهد نفسه بكظم الغيظ واحتمال الأذى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يصل إليها وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة والخير {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي وإن وسوس إليك الشيطان بترك ما أُمرت به من الدفع بالتي هي أحسن، وأراد أن يحملك على البطش والانتقام، فاستعذ بالله من كيده وشره {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وأحوالهم.
دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة
{وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(38)وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته الباهرة، وحكمته البالغة فقال {وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار، وتذليل الشمس والقمر، مسخَّرين لمصالح البشر {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أي لا تسجدوا للمخلوق واسجدوا للخالق، الذي خلق هذه الأشياء وأبدعها {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تفردونه بالعبادة فلا تسجدوا لأحدٍ سواه {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا} أي فإِن استكبر الكفار عن السجود لله {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي فالملائكة الأبرار يعبدونه بالليل والنهار {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أي لا يملّون عبادته.
{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} أي ومن البراهين والعلامات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفخت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى.
توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ(43)}.
ثم توعَّد تعالى من يلحد في ءاياته بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوده فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أي إن الذين يطعنون في ءاياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد، قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد، وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أمَّنْ يكون في الجنة ءامناً من عذاب الله يوم القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في ءايات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون ءامنين يوم القيامة، وشتَّان ما بينهما {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفوف بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم، وسيجازيكم عليها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر "إنَّ" محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون بكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحد، ويقمع كلَّ معاند {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه، قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه .. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله، قال القرطبي: يُعزي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإِنه ينتقم لك من أعدائك.
تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(45)مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(46)}.
ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين ومكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت ءاياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا {ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ استفهام إنكاري أي أقرآن أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزل القرآن بلغة العجم؟! فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أنهم قالوا {قُلوبنا في أكنَّةٍ ممَّا تدعونا إليه} فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب!! ولصحَّ لهم أن يقولوا {قلوبُنا في إكنةٍ ممَّا تدعونا إليه} لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه!! اما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى {وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح ءاياته، وسطوع براهينه، هادٍ إلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إِنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادى من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل، قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّقٍ لها ومكذِّب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن، قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي وإِن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه وبجرمه، قال المفسرون: ليست صيغة "ظلاَّم" هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا.
علم الساعة مختص بالله تعالى
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ(47)وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(48)}.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإِمام فخر الدين الرازي: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها. ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي}؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذي زعمتم أنهم آلهة؟ وفيه تقريعٌ وتهكمٌ بهم {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما منّا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً، قال المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله.
الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال
{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ(49)وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(50)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(51)}
{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة والعز والسلطان {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي وإِن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطٌ من روح الله ورحمته {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي، قال أبوحيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي وما أعتقد أن القيامة ستكون {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ} أي وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ر