سورة النَّجْم
معجزة المعراج
بيان عظمة الله وأحقيته بالعبادة، وعدم نفع عبادة غيره
من ضلالات المشركين، تسميتهم الملائكة بنات الله
جزاء المسيئين والمحسنين، ووصف المحسنين
توبيخ الوليد بن المغيرة لإعراضه عن اتباع الحق
الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة النَّجْم مكية وهي تبحث عن موضوع الرسالة في إِطارها العام، وعن موضوع الإِيمان بالبعث والنشور شأن سائر السور المكية.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن موضوع "المعراج" الذي كان معجزة لرسول الإِنسانية محمد بن عبد الله صلوات الله عليه، والذي رأى فيه الرسول الكريم عجائب وغرائب في ملكوت الله الواسع مما يدهش العقول ويحيّر الألباب، وذكَّرت الناس بما يجب عليهم من الإِيمان والتصديق، وعدم المجادلة والمماراة في مواضيع الغيب والوحي.
* ثم تلاها الحديث عن الأوثان والأصنام التي عبدها المشركون من دون الله، وبينت بطلان تلك الآلهة المزعومة، وبطلان عبادة غير الله، سواء في ذلك عبادة الأصنام أو عبادة الملائكة الكرام.
* ثم تحدثت عن الجزاء العادل يوم الدين، حيث تجزى كل نفسٍ بما كسبت، فينال المحسن جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إِساءته، ويتفرق الناس إِلى فريقين: أبرار، وفجار.
* وقد ذكرت برهاناً على الجزاء العادل بأن كل إِنسان ليس له إِلا عمله وسعيه، وأنه لا تحمل نفسٌ وزر أُخرى، لأن العقوبة لا تتعدى غير المجرم، وهو شرع الله المستقيم، وحكمه العادل الذي بينه في القرآن العظيم، وفي الكتب السماوية السابقة.
* وذكرت السورة الكريمة آثار قدرة الله جل وعلا في الإِحياء والإِماتة، والبعث بعد الفناء، والإِغناء والإِفقار، وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إِذا تمنى.
* وختمت السورة الكريمة بما حلَّ بالأمم الطاغية كقوم عاد، وثمود، وقوم نوح ولوط، من أنواع العذاب والدمار، تذكيراً لكفار مكة بالعذاب الذي ينتظرهم بتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وزجراً لأهل البغي والطغيان عن الاستمرار في التمرد والعصيان.
معجزة المعراج
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى(1)مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى(2)وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ ءاياتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18)}
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أي أقسمُ بالنجم وقت سقوطه من علو قال ابن عباس: أقسم سبحانه بالنجوم إِذا انقضَّت في إِثر الشياطين حين استراقها السمع وقال الحسن: المراد في الآية النجوم إِذا انتثرت يوم القيامة كقوله {وإِذا الكواكب انتثرت} قال ابن كثير: الخالق يُقْسِم بِما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي أن يُقسم إِلا بالخالق {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} أي ما ضلَّ محمدٌ عن طريق الهداية، ولا حاد عن نهج الاستقامة {وَمَا غَوَى} أي وما اعتقد باطلاً قط بل هو في غاية الهدى والرشد قال أبو السعود: والخطاب لكفار قريش، والتعبير بلفظ {صَاحِبُكُمْ} للإِيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله، فإِن طول صحبتهم له، ومشاهدتهم لمحاسن أوصافه العظيمة مقتضيةٌ ذلك {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي لا يتكلم صلى الله عليه وسلم عن هوى نفسي ورأي شخصي {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} أي لا يتكلم إِلا عن وحيٍ من الله عزَّ وجل قال البيضاوي: أي ما القرآن إِلا وحيٌ يوحيه الله إِليه {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} أي علَّمه القرآن ملكٌ شديدٌ قواه وهو جبريل الأمين قال المفسرون: ومما يدل على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحه حتى بلغ بها السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وكان هبوطه بالوحي على الأنبياء أو صعوده في أسرع من رجعة الطرف {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} أي ذو حصافة في العقل، وقوةٍ في الجسم، فاستقرَّ جبريل على صورته الحقيقة {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} أي وهو بأفق السماء حيث تطلع الشمس جهة المشرق قال ابن عباس: المراد بالأفق الأعلى مطلع الشمس قال الخازن: كان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي جُبل عليها، فأراه نفسه مرتين مرةً في الأرض، ومرة في السماء، فأما التي في الأرض فبالأفق الأعلى أي جانب المشرق حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فطلع عليه جبريل من ناحية المشرق وفتح جناحيه فسدَّ ما بين المشرق والمغرب، فخرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمَّه إِلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وهو قوله {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} وأما التي في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحدٌ من الأنبياء على صورته الملكية التي خُلق عليها إِلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} أي ثم اقترب جبريل من محمد وزاد في القرب منه {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أي فكان منه على مقدار قوسين أو أقل قال الألوسي: والمراد إِفادة شدة القرب فكأنه قيل: فكان قريباً منه {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي فأوحى جبريل إِلى عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إِليه من أوامر الله عز وجل {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي ما كذب قلب محمد ما رآه ببصره من صورة جبريل الحقيقة قال ابن مسعود: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناحٍ منها قد سدَّ الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما اللهُ به عليم {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}؟ أي أفتجادلونه يا معشر المشركين على ما رأى ليلة الإِسراء والمعراج؟ قال أبو حيّان: كانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم بأمره في الإِسراء كذبوا واستخفوا حتى وصف لهم صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، والجمهور على أن المرئي مرتين هو جبريل، وعن ابن عباس وعكرمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، وأنكرت ذلك عائشة وقالت إِنه رأى جبريل في صورته مرتين ثم قال أبو حيان: والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله تعالى {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فإِنه يقتضي مرة متقدمة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} أي رأى الرسول جبريل في صورته الملكية مرةً أُخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} أي عند سدرة المنتهى التي هي في السماء السابعة قرب العرش قال المفسرون: والسِدرة شجرة النَّبق تنبع من أصلها الأنهار، وهي عن يمين العرش، وسميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إِليها علم الخلائق وجيمع الملائكة، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها إِلا الله جل وعلا وفي الحديث (ثم صُعد بي إلى السماء السابعة، ورفعت إِليَّ سدرة المنتهى، فإِذا نبقها - أي ثمرها - مثل قلال هجر، وإِذا أوراقها كآذان الفِيلة ..) {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} أي عند سدرة المنتهى الجنة التي تأوي إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} أي رآه وقت ما يغشى السدرة ما يغشى من العجائب قال الحسن: غشيها نور رب العالمين فاستنارت وقال ابن مسعود: غشيها فراش من ذهب وفي الحديث (لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيَّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها) قال المفسرون: رأى عليه السلام شجرة سدرة المنتهى وقد غشيتها سبحات أنوار الله عز وجل، حتى ما يستطيع أحد أن ينظر إِليها، وغشيتها الملائكة أمثال الطيور يعبدون الله عندها، يجتمعون حولها مسبِّحين وزائرين كما يزور الناس الكعبة وفي الحديث (رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى) {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} أي ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام وفي تلك الحضرة يميناً وشمالاً {وَمَا طَغَى} أي وما جاوز الحدَّ الذي رأى قال القرطبي: أي لم يمدَّ بصره إِلى غير ما رأى من الآيات، وهذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام إِذ لم يلتفت يميناً ولا شمالاً وقال الخازن: لما تجلَّى رب العزة وظهر نوره، ثبت صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام العظيم الذي تحار فيه العقول، ونزلُّ فيه الأقدام، وتميل فيه الأبصار {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءاياتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي والله لقد رأى محمد - ليلة المعراج - عجائب ملكوت الله، رأى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، والجنة والنار، ورأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات له ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سدَّ الأفق، وغير ذلك من الآيات العظام قال الفخر الرازي: وفي الآية دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج ءاياتِ الله ولم يرَ الله كما قال البعض، ووجهه أن الله ختم قصة المعراج برؤية الآيات، وقال في الإِسراء {لنريه من ءاياتنا} ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن ولأخبر تعالى به.
بيان عظمة الله وأحقيته بالعبادة، وعدم نفع عبادة غيره
{أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى(20)أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى(21)تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى(22)إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى(23)أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى(24)فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى(25)وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26)}
{أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى* وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} أي أخبرونا يا معشر الكفار عن هذه الآلهة التي تعبدونها "اللات والعزى ومناة" هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رب العزة شيء حتى زعمتم أنها آلهة؟ قال الخازن: هذه أسماء أصنام اتخذوها آلهة يعبدونها، واشتقوا لها أسماء من أسماء الله عز وجل فقالوا من الله اللات، ومن العزيز العُزَّى، وكانت اللات بالطائف، والعُزَّى بغطفان وقد حطمها خالد بن الوليد، ومناة صنم لخزاعة يعبده أهل مكة {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى}؟ توبيخٌ وتقريع أي ألكم يا معشر المشركين النوع المحبوب من الأولاد وهو الذكر، وله تعالى النوع المذموم بزعمكم وهو الأنثى؟ {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} أي تلك القسمة قسمة جائرة غير عادلة حيث جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم قال الرازي: إِنهم ما قالوا لنا البنون وله البنات، وإِنما نسبوا إِلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى {ويجعلون للهِ ما يكرهون} فلما نسبوا إِلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائرة {إِنْ هِيَ إِلا أَسمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي ما هذه الأوثان إِلا أسماء مجردة لا معنى تحتها لأنها لا تضر ولا تنفع، سميتموها آلهة أنتم وآباؤكم وهي مجرد تسميات ألقيت على جمادات {مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما أنزل الله بها من حجة ولا برهان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} أي ما يتبعون في عبادتها إِلا الظنون والأوهام، وما تشتهيه أنفسهم مما زينه لهم الشيطان {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} أي والحال أنه قد جاءهم من ربهم البيان الساطع، والبرهان القاطع على أن الأصنام ليست بآلهة، وأن العبادة لا تصلح إِلا لله الواحد القهار قال ابن الجوزي: وفيه تعجيبٌ من حالهم إِذ لم يتركوا عبادتها بعد وضوح البيان {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} أي ليس للإِنسان كل ما يشتهي حتى يطمع في شفاعة الأصنام قال الصاوي: والمراد بالإِنسان الكافر، وهذه الآية تجر بذيلها على من يلتجئ لغير الله طلباً للفاني، ويتبع هوى نفسه فيما تطلبه فليس له ما يشتهي، واتباعُ الهوى هوان {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} أي فالملك كله لله يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، لأنه مالك الدنيا والآخرة، وليس الأمر كما يشتهي الإِنسان، بل هو تعالى يعطي من اتبع هداه وترك هواه .. ثم أكَّد هذا المعنى بقوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ } أي وكثير من الملائكة الأبرار الأطهار المنبثين في السماوات {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي أن الملائكة مع علو منزلتهم ورفعة شأنهم لا تنفع شفاعتهم أحداً إِلا بإِذن الله، فكيف تشفع الأصنام مع حقارتها؟! {إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} أي إِلا من بعد أن يأذن تعالى في الشفاعة لمن يشاء من أهل التوحيد والإِيمان ويرضى عنه كقوله تعالى {ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى} قال ابن كثير: فإِذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة الأصنام والأنداد عند الله تعالى؟.
من ضلالات المشركين، تسميتهم الملائكة بنات الله
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى(27)وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا(28)فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(29)ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى(30)}
ثم أخبر تعالى عن ضلالات المشركين فقال {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي لا يصدقون بالبعث والحساب {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} أي ليزعمون أنهم إناثٌ وأنهم بناتُ الله {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي لا علم لهم بما يقولون أصلاً،لأنهم لم يشاهدوا خلق الملائكة، ولا جاءهم عن الله حجة أو برهان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} أي ما يتبعون في هذه الأقوال الباطلة إِلا الظنون والأوهام {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أي وإِن الظنَّ لا يجدي شيئاً، ولا يقوم أبداً مقام الحق {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} أي فأعرض يا محمد عن هؤلاء المشركين الذين استنكفوا عن الإِيمان والقرآن {وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي وليس له همٌ إِلا الدنيا وما فيها من النعيم الزائل، والمتعة الفانية قال أبو السعود: والمراد النهيُ عن دعوة المعرض عن كلام الله وعدم الاعتناء بشأنه، فإِن من أعرض عما ذكر، وانهمك في الدنيا بحيث صارت منتهى همته وقصارى سعيه، لا تزيده الدعوة إِلا عناداً وإِصراراً على الباطل {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي ذلك نهاية علمهم وغاية إِدراكهم أن آثروا الدنيا على الآخرة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى} أي هو عالم بالفريقين: الضالين والمهتدين ويجازيهم بأعمالهم.
جزاء المسيئين والمحسنين، ووصف المحسنين
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى(32)}.
سبب نزول الآية (32):
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ ..}: أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صِدِّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد"، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ }.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً ليس لأحدٍ من ذلك شيء أصلاً {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} أي ليجازي المسيء بإِساءته {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي وليجازي المحسن بالجنة جزاء إِحسانه قال ابن الجوزي: والآية إِخبارٌ عن قدرته وسعة ملكه، وهو كلام معترض بين الآية الأولى وبين قوله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا} لأنه إِذا كان أعلم بالمسيء وبالمحسن جازى كلاً بما يستحقه، وإِنما يقدر على مجازاة الفريقين إِذا كان واسع الملك .. ثم ذكر تعالى صفات المتقين المحسنين فقال {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم {وَالْفَوَاحِشَ} أي ويبتعدون عن الفواحش جمع فاحشة وهي ما تناهى قبحها عقلاً وشرعاً كالزنى ونكاح زوجة الأب لقوله تعالى {ولا تقربوا الزنى إِنه كان فاحشة} وقوله {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إِلا ما قد سلف إِنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً} {إِلا اللَّمَمَ} أي إِلا ما قلَّ وصغر من الذنوب قال القرطبي: وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إِلا من عصمه الله كالقبلة والغمزة والنظرة وفي الحديث (إِن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسانِ النطقُ، والنفسُ تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذبه) فإِذا اجتنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بفضله وكرمه الصغائر لقوله تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم} يعني الصغائر {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو تعالى غفار الذنوب ستار العيوب، يغفر لمن فعل ذلك ثم تاب قال ابن كثير: أي رحمته وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها قال البيضاوي: ولعله عقَّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} أي هو جل وعلا أعلم بأحوالكم منكم قبل أن يخلقكم، ومن حين أن خلق أباكم آدم من التراب {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أي ومن حين أن كنتم مستترين في أرحام أُمهاتكم، فهو تعالى يعلم التقيَّ والشقي، والمؤمن والكافر، والبرَّ والفاجر، علم ما تفعلون وإِلى ماذا تصيرون {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} أي لا تمدحوها على سبيل الإِعجاب، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى، فإِن النفس خسيسة إِذا مُدحت اغترت وتكبَّرت قال أبو حيان: أي لا تنسبوها إِلى الطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها، فقد علم الله منكم الزكيَّ والتقي قبل إِخراجكم من صلب آدم، وقبل إِخراجكم من بطون أُمهاتكم {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} أي هو تعالى العالم بمن أخلص العمل، واتقى ربه في السر والعلن.
توبيخ الوليد بن المغيرة لإعراضه عن اتباع الحق
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى(33)وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى(34)أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى(35)أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36)وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37)أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38)وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى(39)وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى(40)ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى(41)وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى(42)وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى(43)وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا(44)وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى(46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى(47)وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى(48)وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى(49)وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى(50)وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى(51)وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى(52)وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى(53)فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى(54)}
سبب النزول:
سبب نزول الآيات (33 - 41):
قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، فعيَّره بعض المشركين، وقال: لِمَ تركتَ دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إن خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله، ورجع إلى شِرْكه، أن يتحمل عنه عذاب الله سبحانه وتعالى، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
سبب نزول الآية (43):
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}: أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم يضحكون، فقال:لوتعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه السلام، فقال: ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضحَكَ وَأَبْكَى}.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} أي أخبرني يا محمد عن هذا الفاجر الأثيم الذي أعرض عن الإِيمان واتباع الهدى؟ {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} أي وأعطى لصاحبه الذي عيَّره قليلاً من المال المشروط ثم بخل بالباقي قال مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} أي أعنده علمٌ بالأمور الغيبية حتى يعلم أن صاحبه يتحمل عنه العذاب؟ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} أي لم يُخبر بما في التوراة المنزلة على موسى {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أي وبما في صحف إبراهيم الذي تمَّم ما أُمر به من طاعة الله وتبليغ رسالته، على وجه الكمال والتمام قال الحسن: ما أمره الله بشيء إِلا وفّى به كقوله تعالى {وإِذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمهنَّ} {أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي أن لا تحمل نفسٌ ذنب غيرها، ولا يؤاخذ أحدٌ بجريرة غيره، والآية ردٌّ على من زعم أنه يتحمل العذاب عن غيره كقوله تعالى {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتَّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى} أي وأنه ليس للإِنسان إِلا عمله وسعيه قال ابن كثير: أي كما لا يُحمل عليه وزرُ غيره، كذلك لا يحصل له من الأجر إِلا ما كسب هو لنفسه {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} أي وأن عمله سيُعرض عليه يوم القيامة، ويراه في ميزانه قال الخازن: وفي الآية بشارة للمؤمن، وذلك أن الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها، ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} أي ثم يُجزى بعمله الجزاء الأتم الأكمل، وهو وعيدٌ للكافر ووعدُ للمؤمن {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أي إِليه جل وعلا المرجع والمآب والمصير فيعاقب ويثيب .. ثم شرع تعالى في بيان آثار قدرته فقال {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} أي هو الذي خلق الفرح والحزن، والسرور والغم، فأضحك في الدنيا من أضحك، وأبكى من أبكى قال مجاهد: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي خلق الموت والحياة فهو جل وعلا القادر على الإِماتة والإِحياء لا غيره، ولهذا كرر الإِسناد "هو" لبيان أن هذا من خصائص فعل الله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي أوجد الصنفين الذكر والأنثى من أولاد آدم ومن كل حيوان قال الخازن: والغرض أنه تعالى هو القادر على إِيجاد الضدين في محل واحد: الضحك والبكاء، والإِحياء والإِماتة، والذكر والأنثى، وهذا شيء لا يصل إِليه فهم العقلاء ولا يعلمونه، وإِنما هو بقدرة الله تعالى وخلقه لا بفعل الطبيعة، وفيه تنبيه على كمال قدرته، لأن النطفة شيء واحد خلق الله منها أعضاء مختلفة، وطباعاً متباينة، وخلق منها الذكر والأنثى، وهذا من عجيب صنعته وكمال قدرته، ولهذا قال {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي خلق الذكر والأنثى من نطفةٍ إِذا تدفقت من صلب الرجل، وصُبّت في رحم المرأة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} أي وأن عليه جل وعلا إِعادة خلق النَّاس للحساب والجزاء، وإِحياؤهم بعد موتهم قال أبو حيّان: لما كانت0 هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ فيها بقوله تعالى {عليه} كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي أغنى من شاء، وأفقر من شاء وقال ابن عباس: أعطى فأرضى، أغنى الإِنسان ثم رضاه بما أعطاه {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} أي هو ربُّ الكوكب المضيء المسمَّى بالشعرى الذي كانوا يعبدونه قال أبو السعود: أي هو رب معبودهم وكانت خزاعة تعبدها، سنَّ لهم ذلك رجلٌ من أشرافهم هو "أبو كبشة" {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} أي أهلك قوم عاد القدماء الذين بُعث لهم نبيُّ الله "هود" عليه السلام، وكانوا من أشد الناس وأقواهم، وأعتاهم على الله وأطغاهم، فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية قال البيضاوي: سميت عاداً الأولى أي القدماء لأنهم أُولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} أي وثمود دمَّرهم فلم يُبق منهم أحداً {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أي وقوم نوح قبل عادٍ وثمود أهلكناهم {إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} أي كانوا أظلم من الفريقين، وأشد تمرداً وطغياناً ممن سبقهم، قال أبو حيّان: كانوا في غاية العتو والإِيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، ولا يتأثرون بشيء مما يدعوهم إِليه قال قتادة: دعاهم ألف سنة إِلا خمسين عاماً، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيد ابنه يتمشى به إِلى نوح ليحذره منه ويقول له: يا بني إِن أبي مشى بي إِلى هذا وأنا مثلك يومئذٍ فإِياك أن تصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على بغض نوح {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} أي وقرى قوم لوط أهواها فأسقطها على الأرض بعد أن انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، وذلك أن جبريل رفعها إلى السماء ثم أهوى بها {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي فغطَّاها من فنون العذاب ما غطَّى، وفيه تهويل للعذاب وتعميمٌ لما أصابهم منه قال أبو حيّان: والمؤتفكة هي مدائن قوم لوط، سميت بذلك لأنها انقلبت بأهلها، رفعها جبريل عليه السلام ثم أهوى بها إِلى الأرض، ثم أمطرت عليهم حجارة من سجيل منضود فذلك قوله {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}.
الاتعاظ بالقرآن وبرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55)هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى(56)أَزِفَتِ الآزِفَةُ(57)لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ(58)أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا(62)}
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} أي فبأي نعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإِنسان وتكذب!! {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى} أي هذا هو محمد رسول منذر كسائر الرسل ومن جنس المنذرين الأولين وقد علمتم ما حلَّ بالمكذبين {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} أي دنت الساعة واقتربت القيامة قال القرطبي: سميت آزفة لدنوها وقرب قيامها {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أي لا يقدر على كشفها وردها إِذا غشيت الخلق بأهوالها وشدائدها إِلا الله تعالى {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ}؟ استفهام للتوبيخ أي أفمن هذا القرآن تعجبون يا معشر المشركين سخرية واستهزاءً؟ {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ} أي وتضحكون عند سماعه، ولا تبكون من زواجره وآياته؟ وقد كان حقكم أن تبكوا الدم بدل الدمع حزناً على ما فرطتم {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} أي وأنتم لاهون غافلون؟ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أي فاسجدوا لله الذي خلقكم وأفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات والعزى، ومناة والشعرى، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لا يليق السجود والعبادة إِلاَّ له جل وعلا.