سورة الحشر
إجلاء يهود بني النضير
حكم الفيء في الإسلام
تواطؤ المنافقين واليهود
وعظ المؤمنين وتحذيرهم من الفسق
روعة القرآن ومنزَّلة ذي الأسماء الحسنى
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الحشر مدنية وهي تعنى بجانب التشريع شأن سائر السور المدنية، والمحورُ الرئيسي الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث عن "غزوة بن النضير" وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فأجلاهم عن المدينة المنورة، ولهذا كان ابن عباس يسمي هذه السورة "سورة بني النضير" وفي هذه السورة الحديث عن المنافقين الذين تحالفوا مع اليهود، وبإِيجاز هي سورة "الغزوات والجهاد" الفيء والغنائم.
* ابتدأت السورة الكريمة بتنزيه الله وتمجيده، فالكون كله بما فيه من إِنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، شاهد بوحدانية الله وقدرته وجلاله، ناطق بعظمته وسلطانه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
* ثم ذكرت السورة بعض آثار قدرته، ومظاهر عزته، بإِجلاء اليهود من ديارهم وأوطانهم، مع ما كانوا فيه من الحصون والقلاع، وكانوا يعتقدون أنهم في عزة ومنعة لا يستطيع أحد عليهم، فجاءهم بأس الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ..} الآيات.
* ثم تناولت السورة موضوع الفيء والغنيمة، فبينت شروطه وأحكامه، ووضحت الحكمة من تخصيص الفيء بالفقراء، لئلا يستأثر به الأغنياء، وليكون هناك بعض التعادل بين طبقات المجتمع، بما فيه خير الفريقين، وبما يحقق المصلحة العامة {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِنِ...} الآيات.
* وتناولت السورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثناء العاطر، فنوَّهت بفضائل المهاجرين ومآثر الأنصار، فالمهاجرون هجروا الديار والأوطان حباً في الله، والأنصار نصروا دين الله، وآثروا إِخوانهم - المهاجرين - بالأموال والديار على أنفسهم مع فقرهم وحاجتهم {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً..} الآيات.
* وفي مقابلة ذكر المهاجرين والأنصار، ذكرت السورة المنافقين الأشرار، الذين تحالفوا مع اليهود ضد الإِسلام، وضربت لهم أسوأ الأمثال، فمثلتهم بالشيطان الذي يُغري الإِنسان بالكفر والضلال ثم يتخلى عنه ويخذله، وهكذا كان شأن المنافقين مع إِخوانهم اليهود {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم..} الآيات.
* ووعظت السورة المؤمنين بتذكر ذلك اليوم الرهيب، الذي لا ينفع فيه حسب ولا نسب، ولا يفيد فيه جاه ولا مال، وبينت الفارق الهائل بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء ومصير الأشقياء في دار العدل والجزاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ..} الآيات.
* وختمت السورة بذكر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا وبتنزيهه عن صفات النقص {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ..} الآيات وهكذا يتناسق البدء مع الختام، أبدع تناسقٍ ووئام .
إجلاء يهود بني النضير
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ(1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ(2)وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ(3)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(4) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ(5)}.
سبب النزول :
نزول الآية (1) :
{سَبَّحَ لِلَّهِ} : أخرج البخاري عن ابن عباس قال : سورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.
نزول الآية (5) :
{مَا قَطَعْتُم...} : أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق بني النضير، وقطع وَدِيّ البويرة، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } الآية.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي نزَّه الله تعالى ومجَّده وقدَّسه جميع ما في السماواتِ والأرض من ملك، وإِنسان، وجماد، وشجر كقوله تعالى {وإِنْ من شيءٍ إِلا يسبّح بحمده} قال ابن كثير: يخبر تعالى أن جميع ما في السماواتِ والأرض يسبح له ويُمجده ويقدِّسه ويُوحِّده { وَهُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو العزيز في ملكه، الحكيمُ في صنعه {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ} بيانٌ لبعض آثار قدرته تعالى الباهرة وعزته الظاهرة أي هو جلَّ وعلا الذي أخرج يهود بني النضير من مساكنهم بالمدينة المنورة {لأَوَّلِ الحَشْرِ} أي في أول مرة حُشروا وأخرجوا فيها من جزيرة العرب، إِذ لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك قال البيضاوي : لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صالح "بني النضير" على ألاَّ يكونوا معه ولا عليه، فلما ظهر يوم بدر قالوا: إنه النبي المنعوتُ في التوراة بالنصرة لا تُردُّ له راية، فلما هُزم المسلمون يوم أُحد ارتابوا ونكثوا، وخرج "كعب بن الأشرف" في أربعين راكباً إِلى مكة وحالفوا "أبا سفيان" فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم "محمد بن مسلمة" أخا كعبٍ من الرضاعة فقتله غيلةً، ثم صبَّحهم بالكتائب وحاصرهم، حتى صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إِلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر، فذلك قوله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ} قال الألوسي: ومعنى {لأَوَّلِ الحَشْرِ } أن هذا أول حشرهم إِلى الشام أي أول ما حُشروا وأُخرجوا، ونبَّه بلفظ {لأَوَّلِ} على أنهم لم يصبهم جلاءٌ قبله {ما ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ} أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن يخرجوا من أوطانهم وديارهم بهذا الذل والهوان، لعزتهم ومنعتهم، وشدة بأسهم، حيث كانوا أصحاب حصون وعقار، ونخيلٍ وثمار {وَظَنُّواْ أَنَّهُم مَّانَعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ} أي وظنوا أن حصونهم الحصينة تمنعهم من بأس الله، وتدفع عنهم عذابه وانتقامه قال البيضاوي: والأصل أن يُقال: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم من بأس الله، وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإِسناد الجملة إِلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بكونها حصينة، بحيث ظنوا أنه لا يخرجهم منها أحد لأنهم في عزة ومنعة {فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} أي فجاءهم بأسُ الله وعذابه من حيث لم يكن في حسابهم، ولم يخطر ببالهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} أي وألقى في قلوب بني النضير الخوف الشديد، مما أضعف قوتهم، وسلبهم الأمن والطمأنينة، حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (نُصرت بالرعب من مسيرة شهر) {يُخْربُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} أي يهدمون بيوتهم بأيديهم من الداخل، وأيدي المؤمنين من الخارج قال المفسرون: كان بنو النضير قبل إِجلائهم عن ديارهم يخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون الجدران، لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب من ظاهرها ليقتحموا حصونهم {فَاعتَبِرُواْ يَا أُوْلِى الأّبصَارِ} أي فاتعظوا بما جرى عليهم يا ذوي العقول والألباب {وَلوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي ولولا أن الله تعالى قضى عليهم بالخروج من أوطانهم مع الأهل والأولاد {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإِخوانهم بني قريظة {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} أ ي ولهم مع عذاب الدنيا جهنم المؤبد {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي ذلك الجلاء والعذاب بسبب أنهم خالفوا الله وعادوه وعصوا أمره، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم، ونقضٍ للعهود في حق رسوله {وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَاب} أي ومن يخالف أمر الله، ويعادِ دينه فاللهُ ينتقم منه لأن عذابه شديد، وعقابه أليم {وكذلك أخذ ربك إِذا أخذ القُرى وهي ظالمة إِنَّ أخذه أليمٌ شديد} .. ثم أخبر تعالى أن كل ما جرى من المؤمنين من قطع النخيل، وإِحراق بعض الأشجار المثمرة، فإِنما كان بأمر الله وإِرادته فقال {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّيِنَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي ما قطعتم أيها المؤمنون من شجرة نخيل، أو تركتموها كما كانت قائمة على سوقها فبأمر الله وإِرادته ورضاه {وَلِيخْزِىَ الفَاسِقِينَ} أي وليغيظ اليهود ويذلهم، بقطع أشجارهم ونخيلهم قال الرازي: المعنى إِنما أذن تعالى في ذلك حتى يزداد غيظ الكفار، وتتضاعف حسرتهم، بسبب نفاذ حكم أعدائهم في أعزِّ أموالهم قال المفسرون: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نخيلهم، إِهانةً لهم وإِرعاباً لقلوبهم، فقالوا: ما هذا الإِفساد يا محمد ؟ إِنك كنت تنهى عن الفساد، فمابالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة.
حكم الفيء في الإسلام
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ(6) مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وابْنِ الْسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ(7)لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(
والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم(10)}.
سبب النزول :
نزول الآية (9) :
{والَّذِينَ تَبَوَّءو..} : أخرج ابن المنذر عن زيد الأصم : أن الأنصار قالوا : يا رسول الله، اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين قال : لا، ولكن تكفونهم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة، والأرض أرضكم، قالوا : رضينا، فأنزل الله : {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ} الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أصابني الْجَهْد (الجوع والفاقة) فأرسل إلى نسائه، فلم يجد عندهن شيئاً، فقال: ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله، فقام رجل من الأنصار، فقال : أنا يا رسول الله، فذهب إلى أهله، فقال لامرأته: ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تدخريه شيئاً، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة، ففعلت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد عجب الله، أو ضحك من فلان وفلانة، فأنزل الله تعالى : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ}.
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} أي وما أعاد الله وردَّه غنيمة على رسوله من أموال يهود بني النضير {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} أي لم تسيِّروا إِليه خيلكم ولا ركابكم، ولا تعبتم في تحصيله قال القرطبي: يقال: وجف البعير وجيفاً إِذا أسرع السير، وأوجفه صاحبه إِذا حمله على السير السريع، والركاب: ما يُركبُ من الإِبل، والمعنى: لم تقطعوا إِليها شُقةً، ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، وإِنما كانت من المدينة على ميلين، فافتتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم صلحاً، وأجلاهم عنها وأخذ أموالهم، فجعلها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث شاء {وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى من سنته أن ينصر رسله بقذف الرعب في قلوب أعدائه، من غير أن يقاسوا شدائد الحروب {وَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُُ} أي هو تعالى قادر على كل شيءٍ، لا يُغالب ولا يُمانع ولا يعجزه شيء .. ثم بيَّن تعالى حكم الفيء عامةً - وهو ما يغنمه المسلمون بدون حرب - فقال { مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي ما جعله الله غنيمةً لرسوله بدون قتال من أموال الكفار قال ابن عباس: هي قريظة، والنضير، وفدك، وخيبر {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} أي فحكمها أنها لله تعالى يضعها حيث يشاء، ولرسوله يصرفها على نفسه وعلى مصالح المسلمين {وَلِذِي الْقُربَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ} أي ولأقرباء الرسول من بني هاشم وعبد المطلب، ولليتامى الذين مات ءاباؤهم، وللمساكين ذوي الحاجة والفقر {وابْنِ الْسَّبِيلِ} أي وللغريب المنقطع في سفره قال ابن جزي : لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال، فإِن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإِيجاف الخيل والركاب، فتلك يؤخذ منها الخمس ويقسم الباقي على الغانمين، وأما هذه ففي "حكم الفيء" وهو ما يؤخذ من الكفار من غير قتال فلا تعارض بينهما ولا نسخ، وقد قرر الفقهاء الفرق بين الغنيمة والفيء، وأنَّ حكمهما مختلف، فالغنيمة ما أُخذت بالقتال، والفيءُ ما أُخذ صلحاً، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء {ما أفاء الله على رسوله} وذكر في الأنفال لفظ الغنيمة {واعلموا أنما غنمتم من شيء} {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةَ بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} أي لئلا ينتفع بهذا المال ويستأثر به الأغنياء دون الفقراء، مع شدة حاجة الفقراء للمال قال القرطبي: أي فعلنا ذلك كيلا يتقاسمه الرؤساء والأغنياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إِذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه - وهو المرباعُ - ثم يصطفي منها أيضاً ما يشاء قال المفسرون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإِنهم كانوا حينئذٍ فقراء، ولم يُعط الأنصار منها شيئاً فإِنهم كانوا أغنياء، فقال بعض الأنصار: لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل الله هذه الآية {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} أي ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم فافعلوه ، وما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإِنه إِنما يأمر بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شرٍّ وفساد قال المفسرون : والآية وإِن نزلت في أموال الفيء، إلا أنها عامة في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه من واجبٍ، أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفيء وغيره، عن ابن مسعود أنه قال: "لعن اللهُ الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيِّرات خلق الله" فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يُقال لها "أم يعقوب" - وكانت تقرأ القرآن - فأتته فقالت: ما حديثٌ بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا!! وذكرته له، فقال ابن مسعود: وما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى ؟ فقالت المرأةُ : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته! فقال: إِن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأتِ قول الله عز وجل {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} ؟ {وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي خافوا ربكم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} أي فإِن عقابه أليم وعذابه شديد، لمن عصاه وخالف ما أمره به {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} هذا متعلقٌ بما سبق من حكم الفيء كأنه يقول : الفيءُ والغنائم لهؤلاء الفقراء المهاجرين الذين ألجأهم كفار مكة إِلى الهجرة من أوطانهم، فتركوا الديار والأموال، ابتغاء مرضاة الله ورضوانه {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي قاصدين بالهجرة إِعلاء كلمة الله ونصرة دينه {أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي هؤلاء الموصوفون بالصفات الحميدة هم الصادقون في إِيمانهم قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال، والأهلين والأوطان، حباً لله ورسوله، حتى إِن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليُقيم به صُلبه من الجوع .. ثم مدح تعالى الأنصار وبينَّ فضلهم وشرفهم فقال {والَّذِينَ تَبَوَّءو الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} أي والذين اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وآمنوا قبل كثيرٍ من المهاجرين وهم الأنصار قال القرطبي: أي تبوءوا الدار من قبل المهاجرين، واعتقدوا الإِيمان وأخلصوه، والتبوء : التمكن والاستقرار، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إِليهم {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي يحبون إِخوانهم المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الخازن: وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم، وأشركوهم في أموالهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ} أي ولا يجد الأنصار حزازةً وغيظاً وحسداً مما أعطي المهاجرون من الغنيمة دونهم قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إِلا ثلاثةً منهم، فطابت أنفس الأنصار بتلك القسمة {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَو كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةُُ} أي يفضلون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الحاجة والفاقة إِليه، فإِيثارهم ليس عن غنى عن المال، ولكنه عن حاجة وفقر، وذلك غاية الإِيثار {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي ومن حماه الله وسلم من البخل فقد أفلح ونجح، والشُحُّ هو البخل الشديد مع الجشع والطمع، وهو غريزة في النفس ولذلك أضيف إِليها، قال ابن عمر: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إِنما الشحُّ أن تطمع عينه فيما ليس له وفي الحديث (واتقوا الشُحَّ فإِنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) {والَّذِينَ جَاءو مِن بَعدِهِم} هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين المستحقين للإِحسان والفضل، وهم التابعون لهم بإِحسانٍ إِلى يوم القيامة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} أي يدعون لهم قائلين : يا ربنا اغفر لنا ولإِخواننا المؤمنين الذين سبقونا بالإِيمان قال أبو السعود: وصفوهم بالسبق بالإِيمان اعترافاً بفضلهم، لأن أخوة الدين عندهم أعزُّ وأشرف من النسب {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} أي ولا تجعل في قلوبنا بغضاً وحسداً لأحدٍ من المؤمنين {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفُُ رَّحِيم} أي مبالغٌ في الرأفة والرحمة فاستجب دعاءنا، قال ابن كثير: وما أحسن ما استنبط الإِمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الغنيمة شيء لعدم اتصافه بأوصاف المؤمنين، وقال شيخ زاده: بيَّن تعالى أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين بالرحمة والدعاء، فمن لم يكن كذلك بل ذكرهم بسوء فقد كان خارجاً عن جملة أقسام المؤمنين بمقتضى هذه الآيات، وقد روي عن الشعبي أنه قال: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى فقالوا : أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شرُّ أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم، فالسيف عليهم مسلول إِلى يوم القيامة .. اللهم ارزقنا محبة أصحاب نبيك الكريم.
تواطؤ المنافقين واليهود
{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ(11)لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ(12)لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ(13)لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً محَصَّنَةٍ أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون(14)كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ(15)كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ(16)فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(17)}.
سبب النزول :
نزول الآية (11) :
{ألَم تَرَ..} : أخرج ابن أبي حاتم عن السُّدِّي قال : أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير : {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم}، فنزلت هذه الآية فيهم : {ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ }.
{ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} تعجيبٌ من الله تعالى لرسوله من حال المنافقين أي ألا تعجب يا محمد من شأن هؤلاء المنافقين الذين أظهروا خلاف ما أضمروا ؟ {يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ} أي يقولون ليهود بني قريظة والنضير الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم {لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم} أي لئن أخرجتم من المدينة لنخرجنَّ معكم منها قال ابن جزي: نزلت في عبد الله بن أُبي بن سلول وقوم من المنافقين، بعثوا إِلى بني النضير وقالوا لهم : اثبتوا في حصونكم. فإِنا معكم كيف ما تقلبت حالكم، وإِنما جعل المنافقين إِخوانهم لأنهم كفار مثلهم {وَلا نُطِيعُ فِيكُم أَحَداً أَبدَاً} أي ولا نطيع أمر محمد في قتالكم، ولا نسمع من أحدٍ إِذا أمرنا بخذلانكم {وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم} أي ولئن قاتلكم أحد لنعاوننكم على عدوكم ونكون بجانبكم {وَ اللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أي والله يشهد إِن المنافقين لكاذبون فيما قالوه ووعدوهم به .. ثم أخبر الله عن حال المنافقين بالتفصيل فقال {لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم} أي لئن أخرج اليهود لا يخرج المنافقون معهم {وَلَئِن قُوتِلوا لا يَنصُرُونَهُم} أي ولئن قوتل اليهود لا ينصرهم المنافقون ولا يقاتلون معهم قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أمر الغيب، لأنه أُخرجوا فلم يخرجوا معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم كما أخبر عنه القرآن {وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} أي ولئن جاءوا لنصرتهم وقاتلوا معهم - على سبيل الفرض والتقدير - فسوف ينهزمون، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين قال الإِمام الفخر الرازي: أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا فإِن المنافقين لا يخرجون معهم - وقد كان الأمر كذلك، فإِن بني النضير لما أُخرجوا لم يخرج معهم المنافقون وقُوتلوا كذلك فما نصروهم - وأما قوله تعالى {وَلَئِن نَّصَروهُم} فهذا على سبيل الفرض والتقدير أي بتقدير أنهم أرادوا نصرتهم لا بدَّ وأن يتركوا تلك النصرة وينهزموا {لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ} أي لأنتم يا معشر المسلمين أشدُّ خوفاً وخشيةً في قلوب المنافقين من الله، فإِنهم يرهبون ويخافون منكم أشدَّ من رهبتهم من الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَفقَهُونَ} أي ذلك الخوف منكم بسبب أنهم لا يعلمون عظمة الله تعالى حتى يخشوه حقَّ خشيته قال القرطبي: أي لا يفقهون قدر عظمة الله وقدرته .. ثم أخبر تعالى عن اليهود والمنافقين بأنهم جبناء من شدة الهلع، وأنهم لا يقدرون على قتال المسلمين إِلا إِذا كانوا متحصِّنين في قلاعهم وحصونهم فقال {لا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعاً إِلا فِي قُرىً مَّحَصَّنَةٍ} أي لا يقدرون على مقاتلتكم مجتمعين إِلا إِذا كانوا في قرى محصَّنة بالأسوار والخنادق {أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ} أي أو يكونوا من وراء الحيطان ليتستروا بها، لفرط جزعهم وهلعهم {بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدُُ} أي عداوتهم فيما بينهم شديدة {تَحسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُم شَتَّى} أي تظنهم مجتمعين على أمرٍ ورأي - في الصورة - ذوي ألفةٍ واتحاد، وهم مختلفون غاية الاختلاف لأن آراءهم مختلفة، وقلوبهم متفرقة قال قتادة: أهل الباطل مختلفةٌ آراؤهم، مختلفة أهواؤهم، مختلفةُ شهادتهم، وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومُُ لا يَعقِلُون} أي ذلك التفرق والتشتت بسبب أنهم لا عقل لهم يعقلون به أمر الله قال أبو حيّان: وموجب ذلك التفرق والشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم قَرِيباً} أي صفةُ بني النضير فيما وقع لهم من الجلاء والذل، كصفةِ كفار مكة فيما وقع لهم يوم بدر من الهزيمة والأسر قال البيضاوي: أي مثل اليهود كمثل أهل بدر، أو المهلكين من الأمم الماضية في زمان قريب {ذَاقُوا وَبَالَ أَمرِهِم} أي ذاقوا سوء عاقبة إِجرامهم في الدنيا {وَلَهُم عَذَابُ أَلِيمُُ} أي ولهم عذاب شديد موجعٌ في الآخرة {كَمَثَلِ الشَّيطَانِ إِذ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفُر} أي مثل المنافقين في إِغراء اليهود على القتال، كمثل الشيطان الذي أغرى الإِنسان بالكفر ثم تخلى عنه وخذله {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَريءُُ مِّنكَ} أي فلما كفر الإِنسان تبرأ منه الشيطان وقال {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} أي أخاف عذاب الله وانتقامه إِن كفرتُ به قال ابن جزي: هذا مثلٌ، مثَّل اللهُ للمنافقين - الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك - بالشيطان الذي يُغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه، والمراد بالشيطان والإِنسان هنا الجنس، وقولُ الشيطان {إِنِّي أَخافُ اللَّهَ} كذبٌ منه ورياءٌ لأنه لو خاف الله لامتثل أمره وما عصاه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَينِ فِيهَا} أي فكان عاقبة المنافقين واليهود، مثل عاقبة الشيطان والإِنسان، حيث صارا إِلى النار المؤبدة {وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} أي وذلك عقاب كل ظالم فاجر، منتهكٍ لحرمات الله والدين ..
وعظ المؤمنين وتحذيرهم من الفسق
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعمَلُونَ(18)ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ(19)لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ(20)}.
ولمَّا ذكر صفات كلٍ من المنافقين واليهود وضرب لهم الأمثال، وعظ المؤمنين بموعظةٍ حسنة، تحذيراً من أن يكونوا مثل من تقدم ذكرهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقَواْ اللَّهَ} أي خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه {وَلتَنظُر نَفسُُ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ} أي ولتنظر كلُّ نفسٍ ما قدَّمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة قال ابن كثير: انظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، وسُمي يوم القيامة غداً لقرب مجيئه {وما أمرُ الساعة إِلا كلمح البصر} والتنكير فيه للتفخيم والتهويل {واتَّقُوا اللَّهَ} كرَّره للتأكيد ولبيان منزلة التقوى التي هي وصية الله تعالى للأولين والآخرين {ولقد وصيَّنا الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم وإِياكم أنْ اتقوا الله} {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعمَلُونَ} أي مطلع على أعمالكم فيجازيكم عليها {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} أي ولا تكونوا يا معشر المؤمنين كالذين تركوا ذكر الله ومراقبته وطاعته، فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها بما يصلحها قال أبو حيان : وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، تركوا عبادة الله وامتثال أوامره، فعوقبوا على ذلك بأن أنساهم حظَّ أنفسهم، حتى لم يقدموا له خيراً ينفعها {أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} أي أولئك هم الفجرة الخارجون عن طاعة الله {لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأصحَابُ الجَنَّةِ} أي لا يتساوى يوم القيامة الأشقياء والسعداء، أهل النار وأهل الجنة في الفضل والرتبة {أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} أي أصحاب الجنة هم الفائزون بالسعادة الأبدية في دار النعيم،وذلك هو الفوز العظيم ..
روعة القرآن ومنزَّلة ذي الأسماء الحسنى
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ(22)هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ(24)}.
ثم ذكر تعالى روعة القرآن، وتأثيره على الصمِّ الراسيات من الجبال فقال {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي لو خلقنا في الجبل عقلاً وتمييزاً كما خلقنا للإِنسان، وأنزلنا عليه هذا القرآن، بوعده ووعيده، لخشع وخضع وتشقق، خوفاً من الله تعالى، ومهابةً له وهذا تصويرٌ لعظمة قدر القرآن، وقوة تأثيره، وأنه بحيث لو خوطب به جبلٌ - على شدته وصلابته - لرأيته ذليلاً متصدعاً من خشية الله، والمراد منه توبيخ الإِنسان بأنه لا يتخشع عند تلاوة القرآن، بل يعرض عما فيه من عجائب وعظائم، فهذه الآية في بيان عظمة القرآن، ودناءة حال الإِنسان وقال أبو حيّان: والغرضُ توبيخ الإِنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره بهذا الذي لو أُنزل على الجبل لتخشَّع وتصدَّع، وإِذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي وتلك الأمثال نفصّلها ونوضحها للناس لعلهم يتفكرون في آثار قدرة الله ووحدانيته فيؤمنون .. ثم لما وصف القرآن بالرفعة والعظمة، أتبعه بشرح عظمة الله وجلاله فقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ} أي هو جلَّ وعلا الإِله المعبود بحقٍ لا إِله ولا رب سواه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ} أي عالم السر والعلن، يعلم ما غاب عن العباد مما لم يبصروه، وما شاهدوه وعلموه {هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} أي هو تعالى ذو الرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} كرر اللفظ اعتناءً بأمر التوحيد أي لا معبود ولا رب سواه {الْمَلِكُ} أي المالك لجميع المخلوقات، المتصرف في خلقه بالأمر والنهي، والإِيجاد والإِعدام {الْقُدُّوسُ} أي المنزَّه عن القبائح وصفات الحوادث قال ابن جزي: القُدُّوسُ مشتقٌ من التقديس وهو التنزه عن صفات المخلوقين، وعن كل نقص وعيب، والصيغة للمبالغة كالسبُّوح، وقد ورد أن الملائكة تقول في تسبيحها: "سبُّوح قُدُّوس، ربُّ الملائكة والروح" {السَّلامُ} أي الذي سلم الخلق من عقابه، وأمنوا من جوره {ولا يظلم ربك أحداً} وقال البيضاوي: أي ذو السلامة من كل نقص وآفة، وهو مصدر وصف به للمبالغة {الْمُؤْمِنُ} أي المصدِّق لرسله بإِظهار المعجزات على أيديهم {الْمُهَيْمِنُ} أي الرقيبُ الحافظ لكل شيء وقال ابن عباس: الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء {الْعَزِيزُ} أي القادر القاهر الذي لا يُغلب ولا يناله ذلك {الْجَبَّارُ} أي القهار العالي الجناب الذي يذل له من دونه قال ابن عباس : هو العظيم الذي إِذا أراد أمراً فعله، وجبروتُ الله عظمته {الْمُتَكَبِّرُ} أي الذي له الكبرياء حقاً ولا تليق إِلا به وفي الحديث القدسي (العظمة إِزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي) قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن المتكبر في صفة الناس صفة ذم، لأن المتكبر هو الذي يُظهر من نفسه الكِبْر، وذلك نقصٌ في حق الخلق، لأنه ليس له كبر ولا علو، بل ليس له إلا الذلة والمسكنة، فإِذا أظهر العلو كان كاذباً فكان مذموماً في حق الناس، وأما الحقُّ سبحانه فله جميع أنواع العلو والكبرياء، فإِذا أظهره فقد أرشد العباد إلى تعريف جلاله وعظمته وعلوه، فكان ذلك في غاية المدح في حقه جل وعلا، ولهذا قال في آخر الآية {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله وتقدَّس في جلاله وعظمته، عمَّا يلحقونه به من الشركاء والأنداد {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ} أي هو جل وعلا الإِله الخالق لجميع الأشياء، الموجد لها من العدم، المنشئ لها بطريق الاختراع {الْمُصَوِّرُ} أي المبدع للأشكال على حسب إرادته {هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء} قال الخازن: أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده {لَهُ الأَسمَاءُ الْحًسْنَى} أي له الأسماء الرفيعة الدالة على محاسن المعاني {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرضِ} أي ينزهه تعالى عن صفات العجز والنقص جميع ما في الكون بلسان الحال أو المقال قال الصاوي: ختم السورة بالتسبيح كما ابتدأها به إشارة إلى أنها المقصود الأعظم، والمبدأ والنهاية، وأن غاية المعرفة بالله تنزيه عظمته عما صورته العقول {وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِمُ} أي العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه وصنعه.