سورة المجادلة
حكم الظهار وكفارته
وعيد الله للمخالفين له ولرسوله صلى لله عليه وسلم
أحوال اليهود والمنافقين، وآداب المناجاة
أدب المجالس في الإسلام
الأمر بتقديم الصدقة قبل مساررة الرسول صلى الله عليه وسلم
المنافقون الموالون غير المؤمنين
جزاء المعادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحريم موالاتهم
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة المجادلة مدنية، وقد تناولت أحكاماً تشريعية كثيرة كأحكام الظهار، والكفارة التي تجب على المظاهر، وحكم التناجي، وآداب المجالس، وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مودة أعداء الله، إِلى غير ذلك، كما تحدثت عن المنافقين وعن اليهود.
* ابتدأت السورة الكريمة ببيان قصة المجادلة "خولة بنت ثعلبة" التي ظاهر منها زوجها - على عادة أهل الجاهلية في تحريم الزوجة بالظهار - وقد جاءت تلك المرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ظلم زوجها لها وقالت يا رسول الله: "أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني حتى إِذا كبرتْ سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني" ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: ما أُراك إِلا قد حرمت عليه، فكانت تجادله وتقول: يا رسول الله، ما طلقني ولكنه ظاهر مني، فيرد عليها قوله السابق، ثم قالت: اللهم إني أشكو إِليك، فاستجاب الله دعاءها، وفرَّج كربتها وشكواها {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ..} الآيات.
* ثم تناولت حكم كفارة الظهار {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ..} الآيات.
* ثم تحدثت عن موضوع التناجي، وهو الكلام سراً بين اثنين فأكثر، وقد كان هذا من دأب اليهود والمنافقين لإِيذاء المؤمنين، فبينت حكمه وحذَّرت المؤمنين من عواقبه {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ..} الآيات.
* وتحدثت السورة عن اليهود اللعناء، الذين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فيحيونه بتحية ملغوزة، ظاهرها التحية والسلام، وباطنها الشتيمة والمسبَّة كقولهم: السامُ عليك يا محمد يعنون الموت {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
* وتناولت السورة الحديث عن المنافقين بشيءٍ من الإِسهاب، فقد اتخذوا اليهود أصدقاء، يحبونهم ويوالونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين، فكشفت الستار عن هؤلاء المذبذبين وفضحتهم {ألم تر إِلى الذين تولَّوا قوماً غضب الله عليهم ..} الآيات.
* وختمت السورة الكريمة ببيان حقيقة الحب في الله، والبغض في الله، الذي هو أصل الإِيمان وأوثق عرى الدين، ولا بدَّ في اكتمال الإِيمان من معاداة أعداء الله {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإِيمان ..} إِلى آخر السورة الكريمة.
حكم الظهار وكفارته
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(1)الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(2)وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(3)فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(4)}
سبب النزول:
نزول الآية (1) وما بعدها:
{قَدْ سَمِعَ.. }: أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكَلَ شبابي، ونَثَرت له بطني، حتى إذا كَبِرت سِنّي وانقطع ولدي، ظاهرَ مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقاً عن عائشة قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..} الآية".
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} "قد" لا تدخل إِلا على الأفعال، وإِذا دخلت على الماضي أفادت التحقيق، وإِذا دخلت على المضارع أفادت التقليل كقولك: قد يجودُ البخيلُ، وقد ينزل المطر والمعنى: حقاً لقد سمع الله قول المرأة التي تراجعك وتحاورك في شأن زوجها قال الزمخشري: ومعنى سماعه تعالى لقولها إِجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع اللهُ لمن حمده {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} أي وتتضرع إِلى الله تعالى في تفريج كربتها {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي والله جل وعلا يسمع حديثكما ومراجعتكما الكلام، ماذا قالت لك وماذا رددت عليها {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع بمن يناجيه ويتضرع إِليه، بصير بأعمال العباد، وهو كالتعليل لما قبله، وكلاهما من صيغ المبالغة أي مبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات .. ثم ذمَّ تعالى الظهار وبيَّن حكمه وجزاء فاعله فقال {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أي الذين يقولون لنسائهم: أنتن كظهور أمهاتنا يقصدون بذلك تحريمهن عليهم كتحريم أمهاتهن، لسن في الحقيقة أمهاتهم وإِنما هنَّ زوجاتهم قال الإِمام الفخر الرازي: الظهار هو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، يقصد عُلُوّي عليك حرامٌ كعلوي على أمي، والعربُ تقول في الطلاق: نزلتُ عن امرأتي أي طلقتها، فغرضهم من هذه اللفظة تحريم معاشرتها تشبيهاً بالأم وقوله: {منكم} توبيخٌ للعرب وتهجينٌ لعادتهم في الظهار لأنه كان من أيمان أهل الجاهلية خاصةً دون سائر الأمم {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ} أي ما أمهاتهم في الحقيقة إلا الوالدات اللاتي ولدنهم من بطونهن وفي المثل "ولدك من دمَّى عقبيك" وهو تأكيد لقوله {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} زيادة في التوضيح والبيان {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} أي والحال أِن هؤلاء المظاهرين ليقولون كلاماً منكراً تنكره الحقيقة وينكره الشرع، وهو كذبٌ وزورٌ وبهتان {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة لمن تاب وأناب قال ابن جزي: أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة، والزور هو الكذب، وإِنما جعله كذباً لأن المظاهر يجعل امرأته كأمه، وهي لا تصير كذلك أبداً والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء: أحدها: قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فإِن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني: أنه سمَّاه منكراً والثالث: أنه سماه زوراً والرابع: قوله تعالى {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} فإِنَّ العفو والمغفرة لا تقع إِلا عن ذنب، والذنب مع ذلك لازمٌ للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة .. ثم بيَّن تعالى طريق الكفارة عن هذا القول الشنيع فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} أي يظاهرون من زوجاتهم بتشبيههنَّ بالأمهات {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي يعودون عمَّا قالوا، ويندمون على ما فرط منهم، ويرغبون في إِعادة أزواجهم إِليهم {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فعليهم إِعتاقُ رقبةٍ - عبداً كان أو أمةً - من قبل أن يعاشر زوجته التي ظاهر منها أو يجامعها، والتَّماسُّ كنايةٌ عن الجماع ودواعيه من التقبيل واللمس عند الجمهور قال الخازن: المرادُ من التماسِّ المجامعةُ فلا يحل للمظاهر وطءُ امرأته التي ظاهر منها ما لم يُكفِّر وقال القرطبي: لا يجوز للمظاهر الوطءُ قبل التكفير، فإِن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير، وعن مجاهد تلزمه كفارتان {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي ذلكم هو حكم الله فيمن ظاهر ليتعظ به المؤمنون، حتى تتركوا الظهار ولا تعودوا إليه {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي عالم بظواهر الأمور وبواطنها ومجازيكم بها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم من الأحكام {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي فمن لم يجد الرقبة التي يعتقها فعليه صيام شهرين متواليين من قبل الجماع قال المفسرون: لو أفطر يوماً منها انقطع التتابع ووجب عليه أن يستأنفها {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} أي فمن لم يستطع الصيام لكبرٍ أو مرض، فعليه أن يُطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي بيناه من أحكام الظهار من أجل أن تصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وتلك هي أوامرُ الله وحدوده فلا تعتدوها {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وللجاحدين والمكذبين بهذه الحدود عذاب مؤلم موجع قال الألوسي: أطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظاً وزجراً ..
وعيد الله للمخالفين له ولرسوله صلى لله عليه وسلم
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(5)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(6)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ} ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر المحادين المخالفين لها فقال {اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يخالفون أمر الله ورسوله، ويعادون الله ورسوله قال أبو السعود: أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلاً من المتعاديين في حدٍّ وجهة غير حدِّ الآخر وجهته، وإِنما ذكرت المحادَّة هنا دون المعاداة والمشاقّة لمناسبة ذكر "حدود الله" فكان بينهما من حسن الموقع ما لا غاية وراءه {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي خُذلوا وأهينوا كما خُذل من قبلهم من المنافقين والكفار الذي حادُّوا الله ورسله وأُذلوا وأُهينوا {وَقَدْ أَنْزَلْنَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي والحال أنا قد أنزلنا ءاياتٍ واضحات، فيها الحلال والحرام، والفرائض والأحكام {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي وللكافرين الذين جحدوها ولم يعملوا بها عذاب شديد يهينهم ويذهب عزَّهم قال الصاوي: وقد نزلت هذه الآية في كفار مكة يوم الأحزاب حين أرادوا التحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصودُ بها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشارته مع المؤمنين بأن أعداءهم المتحزبين سيذلون ويخذلون ويفرق جمعهم فلا تخشوا بأسهم {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي اذكر ذلك اليوم الرهيب حين يحشر الله المجرمين كلهم في صعيد واحد {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} أي فيخبرهم بما ارتكبوا في الدنيا من جرائم وآثام {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنسوهُ} أي ضبطه الله وحفظه عليهم في صحائف أعمالهم، بينما هم نسوا تلك الجرائم لاعتقادهم أن لا حساب ولا جزاء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي وهو جل وعلا مطَّلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء .. ثم بيَّن تعالى سعة علمه، وإِحاطته بجميع الأشياء، وأنه تعالى يرى الخلق ويسمع كلامهم ويرى مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} أي ألم تعلم أيها السامع العاقل أن الله مطَّلع على كل ذرةٍ في الكون، لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه سرٌّ ولا علانية، وما يقع من حديثٍ وسرٍّ بين ثلاثة أشخاص إِلا كان الله رابعهم بعلمه ومشاركاً لهم فيما يتحدثون ويتهامسون به في خفية عن الناس. {وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ} أي ولا تقع مناجاةٌ وحديث بالسر بين خمسة أشخاص إِلا كان الله معهم بعلمه حتى يكون هو سادسهم {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} أي ولا أقلَّ من ذلك العدد ولا أكثر منه إِلاّ واللهُ معهم يعلم ما يجري بينهم من حديثٍ ونجوى، والغرض: أنه تعالى حاضر مع عباده، مطَّلع على أحوالهم وأعمالهم، وما تهجس به أفئدتهم، لا يخفى عليه شيء من أمور العباد، ولهذا ختم الآية بقوله {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي ثم يخبرهم تعالى عما عملوا من حسن وسيء ويجازيهم عليه يوم القيامة، لأنه عالم بكل شيء من الأشياء قال المفسرون: ابتدأ الله هذه الآيات بالعلم بقوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } واختتمها بالعلم بقوله {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لينبه إِلى إحاطة علمه وجل وعلا بالجزئيات والكليات، وأنه لا يغيب عنه شيء في الكائنات لأنه قد أحاط بكل شيء علماً، قال ابن كثير: وقد حكى غير واحد الإِجماع على أن المراد بالمعية في هذه الآية {إِلا هُوَ مَعَهُمْ} معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك، فسمعه مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه مطَّلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ..
أحوال اليهود والمنافقين، وآداب المناجاة
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ(
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(9)إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(10)}
سبب النزول:
نزول الآية (
:
{ألم تر ...}: أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيَّان قال: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} الآية.
نزول قوله تعالى: {وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحيِّك به الله}:
عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألستُ أدري ما يقولون؟ قال: ألستِ ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول: وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيِّك به الله}.
نزول الآية (10):
{إنما النجوى من الشيطان}: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: {إنما النجوى من الشيطان} الآية.
ثم أخبر تعالى عن أحوال اليهود والمنافقين فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} قال القرطبي: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فشكوا ذلك إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} أي ثم يرجعون إِلى المناجاة التي نهُوا عنها قال أبو السعود: والهمزة {أَلَمْ تَرَ } للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع {ثُمَّ يَعُودُونَ} للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي ويتحدثون فيما بينهم بما هو إِثم وعدوان ومخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم لأن حديثهم يدور حول المكر والكيد بالمسلمين، قال أبو حيان: بدأ بالإِثم لعمومه، ثم بالعُدوان لعظمته في النفوس إِذ هي ظُلامات العباد، ثم ترقَّى إِلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي هذا طعنٌ على المنافقين إِذ كان تناجيهم في ذلك {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} أي وإِذا حضروا عندك يا محمد حيَّوك بتحيةٍ ظالمةٍ لم يشرعها الله ولم يأذن فيها، وهي قولهم "السامُ عليكم" أي الموت عليكم قال المفسرون: كان اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: السامُ عليكم بدلاً من السلام عليكم، والسامُ الموتُ وهو ما أرادوه بقولهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: وعليكم لا يزيد عليها، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السامُ واللعنة، فلما انصرفوا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إِن الله يكره الفُحش والتفحش فقالت يا رسول الله: أما سمعتَ ما قالوا؟ فقال لها إني قلت لهم: أما سمعتِ ما قلت لهم: وعليكم، فيستجيب الله لي فيهم، ولا يتسجيب لهم فيَّ {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي ويقولون فيما بينهم: هلاَّ يعذبنا الله بهذا القول لو كان محمد نبياً؟ فلو كان نبياً حقاً لعذبنا الله على هذا الكلام قال تعالى رداً عليهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا} أي يكفيهم عذاباً أن يدخلوا نار جهنم ويصلوا حرها {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئست جهنم مرجعاً ومستقراً لهم، قال ابن العربي: كانوا يقولون: لو كان محمد نبياً لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليمٌ لا يعاجل العقوبة لمن سبَّه فكيف بمن سبَّ نبيه!! وقد ثبت في الصحيح: "لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم" فأنزل الله تعالى هذا كشفاً لسرائرهم، وفضحاً لبواطنهم، وتكريماً لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأما إمهالهم في الدنيا فمن كراماته صلى الله عليه وسلم على ربه لكونه بعث رحمةً للعالمين .. ثم نهى تعالى المؤمنين عن التناجي بما هو إِثم ومعصية فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أي إذا تحدثتم فيما بينكم سراً فلا تتحدثوا بما فيه إثم كالقبيح من القول، أو بما هو عدوان على الغير أو مخالفة ومعصية لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي وتحدثوا بما فيه خيرٌ وطاعة وإِحسان، قال القرطبي: نهى تعالى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، وأمرهم أن يتناجوا بالطاعة والتقوى والعفاف عما نهى الله عنه {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وخافوا الله بامتثالكم أوامره واجتنابكم نواهيه، الذي سيجمعكم للحساب، ويجازي كلاً بعمله {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ليست النجوى بالإِثم والعدوان إِلا من تزيين الشيطان، ليُدخل بها الحزن على المؤمنين، قال ابن كثير: أي إنما يصدر هذا من المتناجين عن تزيين الشيطان وتسويله {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وليس هذا التناجي بضارٍ للمؤمنين شيئاً إِلا بمشيئة الله وإِرادته {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي وعلى الله وحده فليعتمد ولْيثق المؤمنون، ولا يبالوا بنجوى المنافقين فإِن الله يعصمهم من شرهم وكيدهم، وفي الحديث (إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإِن ذلك يحزنه).
أدب المجالس في الإسلام
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11)}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نداءٌ من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصفٍ وألطف عبارة أي يا من صدَّقتم الله ورسوله وتحليتم بالإِيمان الذي هو زينة الإِنسان {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} أي إِذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس - سواءً كان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المجالس - فتوسعوا وافسحوا له {يفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} أي يوسِّع لكم ربكم في رحمته وجنته، قال مجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأُمروا أن يفسح بعضهم لبعض، قال الخازن: أمر الله المؤمنين بالتواضع وأن يفسحوا في المجلس لمن أراد الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ليتساوى الناس في الأخذ من حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث (لا يقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكنْ توسَّعوا وتفسَّحوا يفسح اللهُ لكم) قال الإِمام الفخر الرازي: وقوله {يفسِح الله لكم} مطلقٌ في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه في المكان، والرزق، والصدر، والقبر، والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسَّع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسَّع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة وفي الحديث (لا يزال الله في عون العبد ما زال العبد في عون أخيه) {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} أي وإِذا قيل لكم أيها المؤمنون انهضوا من المجلس وقوموا لتوسّعوا لغيركم فارتفعوا منه وقوموا، قال ابن عباس: معناه إِذا قيل لكم ارتفعوا فارتفعوا، قال أبو حيّان: أُمروا أولاً بالتفسح في المجلس، ثم ثانياً بامتثال الأمر فيه إِذا أُمروا، وألا يجدوا في ذلك غضاضة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} أي يرفع الله المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة أعلى المراتب، ويمنحهم أعلى الدرجات الرفيعة في الجنة، قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم فإِن الله يقول يرفع المؤمن العالم فوق المؤمن الذي ليس بعالم درجات، وقال القرطبي: بيّن في هذه الآية أن الرفعة عند الله بالعلم والإِيمان، لا بالسبق إِلى صدور المجالس، وفي الحديث (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) وعنه صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء" فأَعْظِمْ بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي خبير بمن يستحق الفضل والثواب ممن لا يستحقه.
الأمر بتقديم الصدقة قبل مساررة الرسول صلى الله عليه وسلم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(12)ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(13)}.
سبب نزول الآيتين (12، 13):
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه، فأراد أن يخفف عن نبيه، فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفُّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية.
وأخرج الترمذي وحسَّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية، فبي خفف الله عن هذه الأمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي إِذا أردتم محادثته سراً {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أي فقدموا قبلها صدقة تصدَّقوا بها على الفقراء، قال الألوسي: وفي هذا الأمر تعظيم لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ونفعٌ للفقراء، وتمييزٌ بين المخلص والمنافق، وبين محب الدنيا ومحب الآخرة {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقات قبل مناجاته أفضل لكم عند الله لما فيه من امتثال أمر الله، وأطهر لذنوبكم {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإِن لم تجدوا ما تتصدقون به فإِن الله يسامحكم ويعفو عنكم، لأنه لم يكلف بذلك إِلا القادر منكم {ءأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} عتابٌ للمؤمنين رقيقٌ رفيق أي أخفتم أيها المؤمنون الفقر إِذا تصدقتم قبل مناجاتكم للرسول صلى الله عليه وسلم؟ والغرضُ: لا تخافوا فإِن الله يرزقكم لأنه غني بيده خزائن السماوات والأرض، وهو عتاب لطيف كما بينا، ثم نسخ تعالى الحكم تيسيراً على المؤمنين فقال {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي فإِذا لم تفعلوا ما أُمرتم به وشقَّ ذلك عليكم، وعفا الله عنكم بأن رخَّص لكم مناجاته من غير تقديم صدقة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي فاكتفوا بالمحافظة على الصلاة ودفع الزكاة المفروضة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في جميع أحوالكم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي محيطٌ بأعمالكم ونياتكم، قال المفسرون: نسخ الله في ذلك تخفيفاً على العباد حتى، قال ابن عباس: ما كان ذلك إِلا ساعةً من نهار ثم نسخ، قال القرطبي: نسختْ فرضيةُ الزكاة هذه الصدقة، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل، وما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: "آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا بعدي، كان عندي دينار فتصدقت به ثم ناجيت الرسول صلى الله عليه وسلم الخ فضعيفٌ: لأن الله تعالى قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} وهذا يدل على أن أحداً لم يتصدق بشيء.
المنافقون الموالون غير المؤمنين
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(14)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(15)اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(16)لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(17)يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ(18)اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (14):
{أَلَمْ تَرَ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا} الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نَبْتَل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حُجَره، إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبَّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلتَ، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (18):
{يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ..}: أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} الآية.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} تعجيبٌ للرسول صلى الله عليه وسلم من أمر المنافقين الذين اتخذوا اليهود أصدقاء أي ألا تعجب يا محمد من حال هؤلاء المنافقين الذين يزعمون الإِيمان، وقد اتخذوا اليهود المغضوب عليهم أولياء، يناصحونهم وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين!! قال الإِمام الفخر الرازي: كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله {من لعنهُ الله وغضب عليه} وكانوا ينقلون إِليهم أسرار المؤمنين {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} أي ليس هؤلاء المنافقون من المسلمين ولا من اليهود، بل هم مذبذبون بين ذلك كقوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء} قال الصاوي: أي ليسوا من المؤمنين الخلَّص، ولا من الكافرين الخُلَّص، لا ينتسبون إِلى هؤلاء ولا إِلى هؤلاء {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي ويحلفون بالله كاذبين يقولون: والله إِنا لمسلمون، وهم يعلمون أنهم كذبة فجرة، قال أبو السعود: والصيغةُ مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا، فإِن الحلف على ما يُعلم أنه كذبٌ في غاية القبح {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ لهم تعالى - بسبب نفاقهم - عذاباً في نهاية الشدة والألم، وهو الدرك الأسفل في جهنم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً} {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي بئس ما فعلوا وبئس ما صنعوا {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} أي جعلوا أيمانهم الكاذبة الفاجرة وقايةً لأنفسهم وسترةً لها من القتل، قال ابن جزي: أصل الجُنَّة ما يُستتر به ويُتقى به المحذور كالترس، ثم استعمل هنا بطريق الاستعارة لأنهم كانوا يظهرون الإِسلام ليعصموا دماءهم وأموالهم {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي فمنعوا الناس عن الدخول في الإِسلام، بإِلقاء الشبهات في قلوب الضعفاء والمكر والخداع بالمسلمين {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي فلهم عذاب شديد في غاية الشدة والإِهانة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم في الآخرة، ولن تدفع عنهم شيئاً من عذاب الله {أُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم أهل النار لا يخرجون منها أبداً {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} أي يحشرهم يوم القيامة جميعاً للحساب والجزاء {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} أي فيحلفون لله تعالى كما يحلفون لكم اليوم في الدنيا كذباً أنهم مسلمون، قال ابن عباس: هو قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي يظنون أن حلفهم في الآخرة ينفعهم وينجيهم من عذابها كما نفعهم في الدنيا بدفع القتل عنهم، قال أبو حيان: والعجب منهم كيف يعتقدون أن كفرهم يخفى على علاَّم الغيوب، ويجرونه مجرى المؤمنين في عدم اطلاعهم على كفرهم ونفاقهم، والمقصود أنهم تعودوا الكذب حتى كان على ألسنتهم في الآخرة كما كانت في الدنيا {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إِن هؤلاء هم البالغون في الكذب الغاية القصوى حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} أي استولى على قلوبهم الشيطان وغلب عليهم وتملَّك نفوسهم حتى أنساهم أن يذكروا ربهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} أي أولئك هم أتباع الشيطان وأعوانه وأنصاره {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي أتباع الشيطان وجنوده هم الكاملون في الخسران والضلالة. لأنهم فوّتوا على أنفسهم النعيم الدائم وعرضوها للعذاب المقيم.
جزاء المعادين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحريم موالاتهم
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ(20)كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ(21)لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(22)}
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يعادون الله ورسوله ويخالفون أمرهما {أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} أي أولئك في جملة الأذلاء المبعدين من رحمة الله {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي قضى الله وحكم أن الغلبة لدينه ورسله وعباده المؤمنين { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قويٌ على نصر رسله وأوليائه، غالبٌ على أعدائه، لا يُقهر ولا يُغلب، قال مقاتل: لما فتح الله مكة والطائف وخيبر للمؤمنين قالوا: نرجوا أن يُظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن سلول: أتظنون أن الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟! والله إِنهم لأكثر عدداً، وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت {كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي لا يمكن أن ترى أيها السامع جماعة يصدقون بالله وباليوم الآخر يحبون ويوالون من عادى الله ورسوله وخالف أمرهما، لأن من أحبَّ الله عادى أعداءه، ولا يجتمع في قلب واحد حبُّ الله وحبُّ أعدائه، كما لا يجتمع النور والظلام، قال المفسرون: غرضُ الآية النهي عن مصادقة ومحبة الكفرة والمجرمين، ولكنها جاءت بصورة إِخبارٍ مبالغةً في النهي والتحذير، قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه لا يجتمع الإِيمان مع حبِّ أعداء الله، وذلك لأن من أحبَّ أحداً امتنع أن يحب عدوه، لأنهما لا يجتمعان في القلب، فإِذا حصل في القلب مودة أعداء الله لم يحصل فيه الإِيمان {وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} أي ولو كان هؤلاء المحادُّون لله ورسوله أقرب الناس إِليهم، كالآباء، والأبناء، والإِخوان، والعشيرة، فإِن قضية الإِيمان بالله تقتضي معاداة أعداء الله، قال أبو حيّان: بدأ بالآباء لأن طاعتهم واجبة على الأولاد، ثم بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ثم بالإِخوان لأنهم بهم التعاضد، ثم بالعشيرة لأن بهم التناصر والمقاتلة والتغلب على الأعداء كما قال القائل:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
قال ابن كثير: نزلت {وَلَوْ كَانُوا ءاباءهُمْ} في "أبي عبيدة" قتل أباه الجراح يوم بدر، {أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِّديق همَّ بقتل ابنه "عبد الرحمن بن أبي بكر" {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مُصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير يومئذٍ {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عُتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة يوم بدر {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} أي أثبت الإِيمان ومكنه في قلوبهم فهي مؤمنةٌ موقنةٌ مخلصة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي وقوَّاهم بنصره وتأييده، قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى ذلك النصر روحاً لأن به يحيا أمرهم {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلهم في الآخرة بساتين فسيحة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا} أي ماكثين فيها أبد الآبدين {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي قبل الله أعمالهم فرضي عنهم، ونالوا ثوابه فرضوا بما أعطاهم، وإِنما ذكر رضوانه عليهم بعد دخولهم الجنة لأنه أعظم النعم، وأجل المراتب_ قال ابن كثير: وفي الآية سر بديع وهو أنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله تعالى، عوَّضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} أي أولئك جماعة الله وخاصته وأولياؤه {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي هم الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، وهذا في مقابلة قوله تعالى {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.