سورة التحريم
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه
التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح
نماذج من النساء المؤمنات والكافرات
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة التحريم من السور المدنية التي تتناول الشؤون التشريعية، وهي هنا تعالج قضايا وأحكاماً تتعلق "ببيت النبوة" وبأُمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرات، وذلك في إِطار تهيئة البيت المسلم، والنموذج الأكمل للأسرة السعيدة.
* تناولت السورة الكريمة في البدء الحديث عن تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لجاريته ومملوكته "مارية القبطية" على نفسه، وامتناعه عن معاشرتها إِرضاءً لرغبة بعض زوجاته الطاهرات، وجاء العتاب له لطيفاً رقيقاً، يشف عن عناية الله بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يُضيّق على نفسه ما وسَّعه الله له {يا أيها النبيُ لم تُحرّمُ ما أحلَّ اللهُ لك تبتغي مرضاة أزواجك ..} الآية.
* ثم تناولت السورة أمراً على جانب كبير من الخطورة ألا وهو "إِفشاء السر" الذي يكون بين الزوجين، والذي يهدِّد الحياة الزوجية، وضربت المثل على ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرَّ إِلى حفصة بسرٍّ واستكتمها إِياه، فأفشته إِلى عائشة حتى شاع الأمر وذاع، مما أغضب الرسول حتى همَّ بتطليق أزواجه {وإِذْ أسرَّ النبي إِلى بعض أزواجه حديثاً ..} الآية.
* وحملت السورة الكريمة حملة شديدةً عنيفة، على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث ما حدث بينهن من التنافس، وغيرة بعضهن من بعض لأمورٍ يسيرة، وتوعدتهن بإِبدال الله لرسوله عليه السلام بنساءٍ خير منهنَّ، انتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم {عسى ربه إِن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، مسلماتٍ، مؤمنات، قانتات، تائبات ..} الآية.
* وختمت السورة بضرب مثلين: مثل للزوجة الكافرة في عصمة الرجل الصالح المؤمن، ومثلاً للزوجة المؤمنة في عصمة الرجل الفاجر الكافر، تنبيهاً للعباد على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب، إِذا لم يكن عمل الإِنسان صالحاً {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما - أي كفرتا بالله ولم تؤمنا - فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إِذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ..} الآيات. وهو ختم رائع يتناسق مع جوّ السورة وهدفها في ترسيخ دعائم الفضيلة والإيمان.
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(1)قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ(3)إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5)}
سبب النزول:
نزول الآية (1، 2):
أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الْحَلْواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، فتواطأتُ أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فلتقل له : إني أجد منك ريح مَغَافير، أكلتَ مغافير، فقال : لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفتُ، لا تخبري بذلك أحداً".
نزول الآية (5):
{عسى ربّه ..}: أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبّي صلى الله عليه وسلم في الغَيْرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله "يا إِبراهيم، يا نوحُ، يا عيسى بن مريم" وإِنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه - صلوات الله عليه - أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية: يا أيها الموحى إِليه من السماء، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، لماذا تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء؟ قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأم ولده "مارية" في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية {يا أيها النبيُ لم تُحرّم ما أحلَّ الله لك} وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، كأنه يقول: لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك، وأزواجك يسعين في مرضاتك، فأرح نفسك من هذا العناء {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك؟ قال ابن جزي: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإِنما تركه لرائحته {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذا إِشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعتبر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} أي واللهُ وليُكم وناصركم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض زوجاته فقال {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلى زوجته حفصة خبراً واستكتمها إِياه، قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وافشته لها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الأمين على إفشائها للسرِّ {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي أعلمها وأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب، قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام، قال الخازن: المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفشيتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها -وكانت قد استكتمتها - فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر العباد، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} الخطاب لحفصة وعائشة، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإِيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله، بحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإِن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} أي فإِنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منكما {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي وجبريل كذلك وليه وناصره، والصالحون من المؤمنين، قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عليه الصلاة والسلام عليهما، قال ابن جزي: معنى الآية: إِن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه من إِفراط الغيرة، وإِفشاء سره ونحو ذلك، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يشقُّ عليك من شأن النساء؟ فإِن كنت طلقتهنَّ فإِنَّ الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكرٍ وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله، وجبريل، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من عاداه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ؟ أفرد {جبريل} بالذكر تعظيماً له، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين: مرةً بالإِفراد، ومرةً في العموم، ووسَّط {صالح المؤمنين} بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم، واعتناءً بهم، وإِشادةً بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر {الملائكة} أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه الصلاة و السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارٍ، يملأ القفار، نصرةً للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} قال المفسرون: {عسى} من الله واجبٌ أي حقٌ واجب عل الله إِن طلقكنَّ رسوله {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ، قال القرطبي: هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن، والله عالمٌ بأنه لا يطلقهن، ولكنْ أخبر عن قدرته، على أن رسوله لو طلقهن، لأبدله خيراً منهن، تخويفاً لهن .. ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال {مُسْلِمَاتٍ} أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله {مُؤْمِنَاتٍ} أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله {قَانِتَاتٍ} أي مطيعاتٍ لما يُؤمرن به، مواظباتٍ على الطاعة {تائِبَاتٍ} أي تائباتٍ من الذنوب، لا يصررن على معصية {عَابِدَاتٍ} أي متعبداتٍ لله تعالى يكثرن العبادة، كأنَّ العبادة امتزجت، بقلوبهن، حتى صارت سجيةً لهن {سَائِحَاتٍ} أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إلى الله ورسوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أ ي منهنَّ ثيباتٍ، ومنهن أبكاراً، قال ابن كثير: قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس، فإِنَّ التنوع يبسط النفس، وإِنما دخلت واو العطف هنا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} للتنويع والتقسيم، ولو سقطت لاختل المعنى، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، فتدبر سرَّ القرآن .
التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(7)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)}.
ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة، أتبع ذلك بموعظةٍ عامةٍ للمؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله، احفظوا انفسكم، وصونوا أزواجكم وأولادكم، من نارٍ حامية مستعرة، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، وبتأديبهم وتعليمهم، قال مجاهد: أي اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال الخازن: أي مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة، قال المفسرون: أراد بالحجارة حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً، وأسرع اتِّقاداً، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة، تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه، قال ابن مسعود: حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم، وحجارةٌ من كبريت، أنتن من الجيفة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب، لا يرحمون أحداً، مكلفون بتعذيب الكفار، قال القرطبي: المراد بالملائكة الزبانية، وهم غلاظ القلوب لا يرحمون إِذا استرحموا، لأنهم خلقوا من الغضب، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير .. ثم يقال للكفار عند دخولهم النار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى {اليوم تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم إِن الله سريع الحساب} ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة، بالغةً في النصح الغاية القصوى، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع، قال العلماء: التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط: الإِقلاع عن الذنب، والندم على ما حدث، والعزم على عدم العودة إِليه، وإِن كان الحق لآدمي زيد شرط رابع وهو: ردُّ المظالم لأصحابها {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم، قال المفسرون: "عسى" من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلاً منه وتكرماً، لأن العظيم إذا وعد وفّى، وعادة الملوك أنهم إذا أرادوا فعلا قالوا "عسى" فهو بمنزلة المحقق {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي يوم لا يفضح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم، قال أبو السعود: وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفر والفسوق {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، كإِضاءة القمر في سواد الليل {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي يدعون الله قائلين: يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات، قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة {وَاغْفِرْ لَنَا} أي وامح عنا ما فرط من الذنوب {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنك القادر على كل شيء، من المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب .. ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان، فهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بقتالهم {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي وشدِّد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم بالرأفة واللين، إِرعاباً وإِذلالاً لهم، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي ومستقرهم في الآخرة جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين.
نماذج من النساء المؤمنات والكافرات
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ(12)}
ثم ضرب تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح، لأن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي مثَّل تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما "نوح" و "لوط" عليهما السلام، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي فخافت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان، فلم يدفعا عن امرأتيهما - مع نبوتهما - شيئاً من عذاب الله {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة: ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين، من الكفرة المجرمين قال القرطبي : ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريب ولا نسيب، إِذا فرَّق بينهما الدين، كما لم يدفع نوح ولوط - مع كرامتهما على الله تعالى - عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً، قال أبو السعود: أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله "فرعون" وهي في أعلى غرف الجنة، قال المفسرون: واسمها "آسية بنت مزاحم" آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فنجَّاها الله من شره، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين {إِذْ قَالَتْ رَبِّ} أي حين دعت ربها قائلةً: يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم، قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي وأنقذني من الأقباط، أتباع فرعون الطاغين، قال الحسن: لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي حفظت فرجها وصانته عن مقارنة الفواحش، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير: إِن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بشرائع الله القدسية، وكتبه السماوية {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي وكانت من القوم المطيعين، العابدين لله عز وجل، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة، والخشوع، وفي الحديث (كمل من الرجل كثير، ولم يكمل من النساء إِلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).