سورة المُدَّثِّر
تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ
قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه
الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم
الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة المدثر مكية، شأنها كسابقتها - سورة المزمل - تتحدث عن بعض جوانب من شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولهذا سميت سورة المدَّثر.
* ابتدأت السورة الكريمة بتكليف الرسول بالنهوض بأعباء الدعوة، والقيامة بمهمة التبليغ بجدٍ ونشاط، وإِنذار الكفار، والصبر على أذى الفجار، حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه {يا أيها المدَّثِّر قم فأنْذرْ وربَّك فكبِّر وثيابك فطهِّر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبرْ}.
* ثم توالت السورة تنذر وتهدد أولئك المجرمين، بيومٍ عصيب شديد لا راحة لهم فيه، لما فيه من الأهوال والشدائد {فإِذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين غير يسير}.
* وبعد ذلك البيان الذي يرتعد له الإِنسان، تحدثت السورة عن قصة ذلك الشقي الفاجر "الوليد بن المغيرة" الذي سمع القرآن وعرف أنه كلام الله، ولكنه في سبيل الزعامة وحب الرئاسة زعم أنه من قبيل السحر الذي تعارفه البشر {ذرْني ومنْ خلقت وحيداً وجعلتُ له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهَّدتُ له تمهيداً ثم يطْمعُ أنْ أزيدَ كلاَّ إِنه كان لآياتنا عنيداً سأُرهِقُهُ صعُوداً إِنَّه فكَّر وقدَّر فَقُتِلَ كيفَ قدَّر .. إلى قوله تعالى: سأُصليهِ سَقَر}.
* ثم تحدثت السورة عن النار التي أوعد الله بها الكفار، وعن خزنتها الأشداء، وزبانيتها الذين كلفوا بتعذيب أهلها، وعددهم والحكمة من تخصيص ذلك العدد {وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لوَّاحة للبشر عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنةً للذين كفروا ..} الآيات.
* وأقسمت السورة بالقمر وضيائه، والصبح وبهائه، على أن جهنم إحدى البلايا العظام {كلا والقمر والليل إذْ أدْبر والصبح إذ أسفر إنها لإِحدى الكُبر نذيراً للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}.
* ثم تحدثت السورة عن الحوار الذي يجري بين المؤمنين والمجرمين، في سبب دخولهم الجحيم {إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين} الآيات.
* وختمت السورة ببيان سبب إعراض المشركين عن الإِيمان {كلا بل لا يخافون الآخرة كلا إِنه تذكرة فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة}.
تكليف الرسول صلى الله عليه وسم بأعباء الدعوة ومهمة التبليغ
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9)عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)}
سبب النزول :
تقدم في سورة المزمل ما ملخصه: أخرج الشيخان عن جابر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري، نزلت، فاستنبطت الوادي، فنوديت، فرفعت رأسي، فإذا الملَك الذي جاءني بحراء، فرجعت، فقلت: دثروني. فأنزل الله: {يا أيها المدثر قم فأنذر}".
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} أي يا أيها المتغطي بقطيفته يريد النوم والراحة، قم من مضجعك قيام عزم وتصميم، وحذر الناس من عذاب الله إن لم يؤمنوا، خوطب صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ "المدثر" مؤانسة له صلى الله عليه وسلم وتلطفاً، كما خوطب بلفظ {المزمل} في السورة السابقة، قال المفسرون: كان صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء فجاءه جبريل بالآيات الكريمة {اقرأ باسم ربك الذي خلق ..} الآيات وهي أول ما نزل عليه من القرآن، فرجع يرجف فؤاده فقال لخديجة: زملوني، زملوني فنزلت {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} الآيات ثم فتر الوحي فحزن صلى الله عليه وسلم فبينا هو يمشي سمع صوتاً من السماء، فرفع رأسه فإذا الملك الذي جاءه بحراء جالس علىكرسي بين السماء والأرض، فعراه صلى الله عليه وسلم من رؤيته الرعب والفزع، فجاء إلى أهله فقال: دثروني، دثروني فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} قال القرطبي: وفي هذا النداء ملاطفة في الخطاب، من الكريم إلى الحبيب، إذ ناداه بوصفه ولم يقل "يا محمد" ليستشعر اللين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة بن اليمان يوم الخندق: "قم يا نومان" {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظم ربك، وخصه بالتمجيد والتقديس، وأفرده بالعظمة والكبرياء، فليس هناك من هو أكبر من الله، قال الألوسي: أي اخصص ربك بالتكبير، وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة، اعتقاداً وقولاً، وإنما ذكرت هذه الجملة بعد الأمر بالإِنذار، تنبيهاً للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم الاكتراث بالكفار، فإن نواصي الخلائق بيد الجبار، فلا ينبغي أن يبالي الرسول بأحد من الخلق، ولا أن يرهب سوى الله، فإن كل كبير مقهور تحت عظمته تعالى وكبريائه {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي وثيابك فطهرها من النجاسات والمستقذرات، فإن المؤمن طيبٌ طاهر، لا يليق منه أن يحمل الخبيث، قال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وقال ابن عباس: كنَّى بالثياب عن القلب والمعنى وقلبك فطهر من الإِثم والمعاصي واستشهد بقول غيلان
وإنــي بحمـــد اللـــه لا ثــوب فــاجر ليســــت ولا من غــدرة أتـقــنع
يقول العرب: فلان طاهر الثياب أو نقي الثياب، يريدون وصفه بالنقاء من المعايب وذميم الصفات، ويقولون: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفاً بالأخلاق الذميمة، قال الرازي: والسبب في حسن هذه الكناية، أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان، فلهذا السبب جعلوا الثوب كناية عن الإنسان، فقالوا: المجدُ في ثوبه، والعفة في إزاره {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي اترك عبادة الأصنام والأوثان ولا تقربها، قال ابن زيد: الرجز: الآلهة التي كانوا يعبدونها، فأمره أن يهجرها فلا يأتيها ولا يقربها، وقال الإمام الفخر الرازي: الرجز: اسم للقبيح المستقذر كالرجس قال تعالى {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} وقوله {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كلام جامع لمكارم الأخلاق، كأنه قيل له: اهجر الجفاء، والسفه، وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين، والمراد بالهجر الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما يقول المسلم: {اهدنا الصراط المستقيم} ليس معناه أنه ليس على الهداية، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} أي ولا تعط الناس عطاء وتستكثره، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كان كثيراً، واعط عطاء من لا يخاف الفقر، وقال ابن عباس: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها بمعنى: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه، وسرُّ النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض تعففاً وكمالاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} أي اصبر على أذى قومك، ابتغاء وجه ربك .. ثم أخبر تعالى عن أهوال القيامة وشدائدها فقال: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} أي فإذا نفخ في الصور، نفخة البعث والنشور، وعبر عن النفخ وعن الصور، بالنقر في الناقور، لبيان هول الأمر وشدته، فإن النقر في كلام العرب معناه الصوت وإذا اشتد الصوت أصبح مفزعاً فكأنه يقول: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، ولهذا قال بعده {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} أي فذلك اليوم يوم شديد هائل، يشتد فيه الهول ويعسر الأمر عليهم، والإشارة بالبعيد {فَذَلِك} للإِيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} أي هو عسير على الكافرين، غير هين ولا يسير عليهم، لأنهم يناقشون الحساب، وتسود وجوههم، ويحشرون زرقاً، ويفتضحون على رؤوس الأشهاد، قال الصاوي: ودلت الآية على أنه يسير على المؤمنين، لأنه قيد عسره بالكافرين، وفيها زيادة وعيد وغيظ للكافرين، وبشرى وتسلية للمؤمنين.
قصة الوليد بن المغيرة والتشنيع عليه
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا(11)وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(12)وَبَنِينَ شُهُودًا(13)وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا(14)ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15)كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا(16)سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(17)إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18)فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19)ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20)ثُمَّ نَظَرَ(21)ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22)ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23)فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24)إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27)لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ(29)عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ(30)}
سبب النزول:
نزول الآية (11):
{ذَرْني ..} أخرج الحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً، لتتعرض لما قِبَله، قال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، فقال: وماذا أقول؟ فوالله، ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا أعلم برَجَزه ولا بقصيده مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطِلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمُغْدِق، وإنه يعلو وما يُعْلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فقال: {هذا سحر يؤثر} يأثره عن غيره، فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيداً}.
نزلت الآية (30):
{عليها تسعة عشر}: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث وابن مردويه عن البراء أن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فجاء، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه ساعتئذ: {عليها تسعة عشر}.
ثم أخبر عن قصة ذلك الشقي الكافر "الوليد بن المغيرة" وقوله التشنيع في القرآن فقال {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} أي دعني يا محمد وهذا الشقي، الذي خلقته في بطن أُمه وحيداً فريداً، لا مال له ولا ولد، ولا حول له ولا مدد، ثم كفر بي وكذب بآياتي، قال المفسرون: نزلت في “الوليد بن المغيرة" كان من أكابر قريش، ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش، وقد أنعم الله عليه بنعم الدنيا من المال والبنين، وأغدق عليه الرزق فكان ماله كالنهر الدافق، وكان للوليد بستان في الطائف لا ينقطع ثمره صيفاً ولا شتاء، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وفيه نزل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} وهو أسلوب بليغ في التهديد، كما نزلت في الآيات المتقدمة في سورة نون، {ولا تطع كل حلاف مهين .. إلى .. سنسمه على الخرطوم} وهو الذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاد له، فإن صناديد قريش لما برموا برسول الله، وضاقت عليهم الحيل في إسكاته، وإطفاء نور دعوته، لجأوا إلى الوليد فأشار عليهم بأن يلقبوه صلى الله عليه وسلم بالساحر، ويأمروا عبيدهم وصبيانهم أن ينادوا بذلك في مكة، فجعلوا ينادون إن محمداً ساحر، فحزن لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيات الكريمة في معرض تهديده وتخويفه، ليكون ذلك أدعى للكسر من كبريائه ثم قال تعالى {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا} أي جعلت له المال الواسع المبسوط، من الإبل، والخيل، والغنم، والبساتين النضرة، قال البيضاوي: {مَمْدُودًا} أي مبسوطاً كثيراً، وكان له الزرع والضرع والتجارة، قال ابن عباس: كان ماله ممدوداً ما بين مكة والطائف، وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفاً {وَبَنِينَ شُهُودًا} أي وأولاداً مقيمين معه في بلده، يحضرون معه المحافل والمجامع، يستأنس بهم ولا يتنغَّص عيشه لفراقهم، قال المفسرون: كان له عشرة بنين لا يفارقونه سفراً ولا حضراً، وكان مستأنساً لا بهم وله بهم عز ومنعة، أسلم منهم ثلاثة "خالد، وهشام، والوليد" وبعد أن ذكر من مظاهر المال والبنين عاد فعمم الخيرات الدنيوية التي أنعم بها الله عليه فقال {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} أي بسطت بين يديه الدنيا بسطاً، ويسرت له تكاليف الحياة، ومظاهر الجاه والعز والسيادة، فكان في قريش عزيزاً منيعاً، وسيداً مطاعاً {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي ثم بعد هذا العطاء الجزيل يطمع أن أزيد له في ماله وولده وقد كفر بي، قال الفخر الرازي: لفظ {ثُمَّ} هنا للإنكار والتعجب، كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري، وأطمعتك وأكرمتك ثم أنت تشتمني!! أي ومع كل هذا الإنعام والإكرام فقد كفر وجحد، وبدل أن يشكر الوليد لربه هذا الإحسان، ويقابله بالطاعة والإيمان، عكس الأمر وقابله بالجحود والكفران {كَلا} ردع وزجر أي ليرتدع هذا الفاجر الأثيم عن ذلك الطمع الفاسد، ثم علل ذلك بقوله {كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا} أي لأنه معاند للحق، جاحد بآيات الله، مكذب لرسوله، فكيف يطمع بالزيادة هذا الشقي العنيد؟ {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} أي سأكلفه وألجئه إلى عذاب صعب شاق لا يطاق، تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل، قال القرطبي: {صَعُودًا} صخرة ملساء يكلف صعودها، فإذا صار في أعلاها حدر في جهنم، فيهوي ألف عام قبل إن يبلغ قرارها وفي الحديث "الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً" {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} أي إنه فكر في شأن النبي والقرآن، وأجال رأيه وذهنه الثاقب، ثم رتب وهيأ كلاماً في نفسه، ماذا يقول في القرآن؟ وبماذا يطعن فيه؟ قال تعالى دعاء عليه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي قاتله الله وأخزاه على تلك الكلمة الحمقاء التي أجالها في نفسه، حيث قال عن القرآن، إنه سحر، وقال عن محمد إنه ساحر، وفي الآية استهزاء به وتهكم، حيث قدر ما يصلح تقديره، ولا يسوغ أن يقوله عاقل، قال أبو حيّان: يقول العرب عند استعظام الأمر والتعجب منه: قاتله الله، ومرادهم أنه بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعي عليه من حُسَّاده، والاستفهام في قوله {كَيْفَ قَدَّرَ}؟ في معنى ما أعجب تقديره وأغربه؟ كقولهم أي رجل هذا؟ أ ي ما أعظمه؟ {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كرر العبارة تأكيداً لذمه وتقبيحاً لحاله، ولغاية التهكم به، كأنه قال: قاتله الله ما أروع تفكيره، وأبدع رأيه الحصيف؟ حيث قال عن القرآن إنه سحر يؤثر؟ قال المفسرون: مر الوليد بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ القرآن، فاستمع لقراءته وتأثر بها، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمداً آنفاً كلاماً، ما هو من كلام الإِنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ والله الوليد، ولتصبأن قريش كلها! فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق حتى جلس إلى جانب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟! فقال: كيف لا أحزن وهذه قريش تجمع لك مالاً ليعينوك به على كبر سنك، ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وصبأت لتصيب من فضل طعامه، وتنال من ماله!! فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالاً وولداً؟! وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل طعام؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ قالوا : اللهم لا، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه كذباً قط؟ قالوا اللهم لا، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكر في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرِّق بين الرجل وأهله وولده، وما هذا الذي يقوله إلا سحر يؤثر، فذلك قوله تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} الآيات تركنا الوليد يفكر ويقدر، ولنرجع إليه لنرى ماذا فعل بعد، قال تعالى {ثُمَّ نَظَرَ} أي أجال النظر مرة أُخرى متفكراً في شأن القرآن {ثُمَّ عَبَسَ} أي ثم قطب وجهه وكلحه ضيقاً بما يقول {وَبَسَرَ} أي وزاد في القبض والكلوح، كالمهتم المتفكر في أمر يدبره، قال ابن جزي: البسور تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أي ثم أعرض عن الإِيمان، وتكبر عن اتباع الهدى والحق {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي فقال: ما هذا الذي يقوله محمد إلا سحر ينقله ويرويه عن السحرة {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ليس هذا كلام الله، وما هو إلا كلام المخلوقين، يخدع به محمد القلوب، ويؤثر فيها كما يؤثر السحر بالمسحور، قال الألوسي: هذا كالتأكيد للجملة الأولى، لأن المقصود منهما نفي كونه قرآناً أو من كلام الله تعالى، ولذلك لم يعطف عليها بالواو، وفي وصف إشكاله واستنباطه هذا القول السخيف استهزاء به، وإشارة إلى أنه عن الحق بمعزل، ويظهر من تتبع أحوال الوليد، أنه إنما قال ذلك عناداً وحمية جاهلية، لا جهلاً بحقيقة الحال، ألا ترى ثناءه على القرآن ونفيه عن جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون!! {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله جهنم يتلظى حرها، ويذوق عذابها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}؟ استفهام للتهويل والتفظيع أي وما أعلمك أي شيء هو سقر؟ {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي لا تبقي على شيء فيها إلا أهلكته، ولا تترك أحداً من الفجار إلا أحرقته، قال ابن عباس: لا تبقي من الدم والعظم واللحم شيئاً، فإذا أعيد خلقهم من جديد تعاود إحراقهم بأشد مما كانت وهكذا أبداً {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} أي تلوح وتظهر لأنظار الناس من مسافات بعيدة لعظمها وهولها كقوله تعالى {وبرزت الجحيم لمن يرى} قال الحسن: تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام حتى يروها عياناً فهي بارزة إلى أنظارهم، يرونها من غير استشراف ولا مدِّ أعناق {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي خزنتها الموكلون عليها تسعة عشر ملكاً من الزبانية الأشداء كقوله تعالى {عليها ملائكة غلاظٌ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} قال ابن عباس: "ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمع فيدفع بتلك الضربة سبعين ألف انسان في قعر جهنم" قال الألوسي: روي عن ابن عباس أنها لما نزلت {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أُمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة - يعني محمداً - يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدَّهم - أي العدد - الشجعان، أفيعجز كل عشرةٍ منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأشداد الجمحي: - وكان شديد البطش - أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله.
الحكمة من تخصيص عدد خزنة جهنم
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)كَلا وَالْقَمَرِ(32)وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ(33)وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ(34)إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ(35)نَذِيرًا لِلْبَشَرِ(36)لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ(37)}
سبب النزول:
نزول للآية (31):
{وما جعلنا ..} : قال ابن إسحاق وقتادة: قال أبو جهل يوماً: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عدداً، أفيعجز مئة رجل منكم عن رجل منهم، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} الآية.
وقال السُّدِّي: لما نزلت {عليها تسعة عشر} قال رجل من قريش يدعى أبا الأشد بن كَلَدة الْجُمَحي - وكان شديد البطش -: يا معشر قريش لا يهولَنَّكم التسعة عشر، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة، وبمنكبي الأيسر التسعة، فأنزل الله: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}.
وفي رواية: أن الحارث بن كَلَدة قال: أن أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، فنزل قوله: {وماجعلنا أصحاب النار إلا ملائكة} أي لم يجعلهم رجالاً تستطيعون مغالبتهم.
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً} أي وما جعلنا خزنة النار إلا من الملائكة الغلاظ الشداد، ولم نجعلهم من البشر حتى يصارعوهم ويغالبوهم {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي لم نجعل ذلك العدد إلاَّ سبباً لفتنة وضلال المشركين، حيث استقلوا بعددهم واستهزؤوا حتى قال أبو جهل: أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحدٍ منهم ثم تخرجون من النار؟ قال الطبري: وإِنما جعل الله الخبر عن عدد خزنة جهنم فتنةً للكافرين، لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم لأصحابه - على سبيل الاستهزاء - أنا أكفيكموهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي ليتيقن أهل الكتاب من صدق محمد، وأن هذا القرآن من عند الله، إِذ يجدون هذا العدد في كتبهم المنزَّلة {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} أي ويزداد المؤمنون تصديقاً لله ورسوله، بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم وتسليم أهل الكتاب لما جاء في القرآن موافقاً للتوراة والإِنجيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في عددهم، وهذا تأكيدٌ لما قبله لأنه لما ذكر اليقين نفى عنهم الشك، فكان قوله {ولا يرتاب} مبالغة وتأكيداً، وهو ما يسميه علماء البلاغة الإِطناب {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي وليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق والكافرون من أهل مكة: أيَّ شيء أراد الله بهذا القول العجيب، الذي هو مثل في الغرابة والبداعة؟ ولما يخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر؟ قال الرازي: إِثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي حصول الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إِعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل عقيبه البتة شك ولا ريب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب فإِنهم يستهزئون به ويضحكون منه، ولذلك بيَّن تعالى الغاية من ذكر هذا الخبر أوضح بيان {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي مثل ما أضلَّ الله أبا جهل وأصحابه، يضلُّ الله عن الهداية والإِيمان من أراد إِضلاله، ويهدي من أراد هدايته، وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} أي وما يعلم عدد الملائكة، وقوتهم وضخامة خلقهم، وكثرتهم إِلا الله رب العالمين، وفي الآية ردٌّ على أبي جهل حين قال: أما لربِّ محمد أعوان إلاّ تسعة عشر؟ {وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} أي وما هذه النار التي وصفها لكم الجبار، إلا موعظة وتذكرة للخلق ليخافوا ويطيعوا {كَلا وَالْقَمَرِ} {كَلا} كلمة ردع وزجر ثم أقسم تعالى بالقمر على أن سقر حق، والمعنى ليرتدع أولئك المستهزئون بالوحي والقرآن عن فعلهم وسوء صنيعهم، وأُقسم بالقمر {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} أي وأُقسم بالليل حين ولَّى بظلمته ذاهباً {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي وبالصبح إِذا تبلَّج وأضاء، ونشر ضياءه على الأرجاء {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ} أي إِن جهنم لإِحدى الدواهي الكبيرة، والبلايا الخطيرة، فكيف يستهزئون بها ويكذبون؟ قال أبو حيان: أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها، وتنبيهاً على ما يظهر فيها من عجائب الله وقدرته، وقوام الوجود بإِيجادها، أقسم على أن جهنم إِحدى الدواهي العظيمة التي لا نظير لها - وفي الآية إِيماء إِلى أن الشمس والقمر مخلوقان لله، وأنهما في حركاتهما وإِدبارهما وإِسفارهما، ونشوء الليل والنهار عنهما، مسخران لأمره تعالى، ساجدان بين يدي قدرته وقهره، فكيف يحسن بالبشر أن يعبدوهما ويكفروا بالإِله الذي خلقهما؟ ثم قال تعالى عن جهنم {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} أي هي إِنذار للخلق ليتقوا ربهم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} أي لمن أراد من العباد أن يتقرب إلى ربه بفعل الخيرات أو يتأخر بفعل الموبقات، قال أبو حيّان: والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه كقوله تعالى {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} قال ابن عباس: من شاء اتبع طاعة الله، ومن شاء تأخر عنها بمعصيته.
الحوار القائم بين أصحاب اليمين والمجرمين
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنْ الْمُجْرِمِينَ(41)مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ(49)كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ(51)بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً(52)كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ(53)كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ(54)فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ(55)وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ(56)}
سبب النزول:
نزول الآية (52):
{بل يريد ...}: أخرج ابن المنذر عن السُّدِّي قال: قالوا: لئن كان محمد صادقاً، فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار، فنزلت: {بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشَّرة}.
وفي رواية: أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد، لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء، عنوانه: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أي كل نفس محبوسة بعملها، مرهونةٌ عند الله بكسبها، ولا تفك حتى تؤدي ما عليها من الحقوق والعقوبات {إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} أي إِلا فريق السعداء المؤمنين، فإِنهم فكوا رقابهم وخلَّصوها من السجن والعذاب، بالإِيمان وطاعة الرحمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} أي هم في جناتٍ وبساتين لا يدرك وصفها، يسأل بعضهم بعضاً عن حال المجرمين الذين في النار، والسؤال لزيادة تبكيت أولئك المجرمين وتوبيخهم، وإِدخال الألم والحسرة على نفوسهم، يقولون لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}؟ ما الذي أدخلكم جهنم، وجعلكم تذوقون سعيرها؟ قال في البحر: وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير، وإِلاّ فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أي قال المجرمون مجيبين للسائلين: لم نكن من المصلين في الدنيا لرب العالمين {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} أ ي ولم نكن نتصدق ونحسن إلى الفقراء والمساكين، قال ابن كثير: مرادهم في الآيتين: ما عبدنا ربنا، ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} أي وكنا نتحدث بالباطل مع أهل الغواية والضلالة، ونقع معهم فيما لا ينبغي من الأباطيل، قال ابن جزي: والخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي نكذب بيوم القيامة، وبالجزاء والمعاد، وإِنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيماً له، لأنه أعظم جرائمهم وأفحشها {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} أي حتى جاءنا الموت ونحن في تلك المنكرات والضلالات، قال تعالى معقباً على اعترافهم بتلك الجرائم {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي ليس لهم شافع ينقذهم من عذاب الله، ولو شفع لهم أهل الأرض ما قبلت شفاعتهم فيهم، قال ابن كثير: من كان متصفاً بمثل هذه الصفات، فإِنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه، لأن الشفاعة إِنما تنجع إِذا كان المحل قابلاً، فأما من وافى الله كافراً فإِنه مخلد في النار أبداً .. ولما ذكر تعالى قبائحهم وشنائعهم عاد بالتوبيخ والتقريع عليهم فقال {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ}؟ فما لهؤلاء المشركين معرضين عن القرآن وآياته، وما فيه من المواعظ البليغة والنصائح والإِرشادات؟ {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} أي كأن هؤلاء الكفار حمر وحشية نافرة وشاردة {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي هربت ونفرت من الأسد من شدة الفزع، قال أبو حيّان: شبههم تعالى بالحمر النافرة مذمة لهم وتهجيناً، وقال ابن عباس: الحمر الوحشية إِذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إِذا رأوا محمداً صلى الله عليه وسلم هربوا منه كما يهرب الحمار من الأسد ثم قال: والقسورة: الأسد {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} أي بل يطمع كل واحد من هؤلاء المجرمين أن ينزل عليه كتاب من الله كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتنزَّل عليه الوحي كما تنزَّل على الرسل والأنبياء، والغرض من الآية بيان إِمعانهم في الضلالة وكأنه يقول: دع عنك ذكر إِعراضهم وغباوتهم ونفارهم نفار العجماوات مما فيه خيرهم وسعادتهم، واستمع لما هو أعجب وأغرب، وذلك طمع كل فردٍ منهم أن يكون رسولاً يوحي إليه، وهيهات أن يصل الأشقياء إلى مراتب الأنبياء، ثم قال تعالى {كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ} أي ليرتدعوا وينزجروا عن مثل ذلك الطمع، بل الحقيقة أنهم قوم لا يصدقون بالبعث والحساب، ولا يؤمنون بالنعيم والعذاب، وهذا هو الذي أفسدهم وجعلهم يعرضون عن مواعظ القرآن {كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} كرَّر الردع والزجر لهم بقوله {كَلا} ثم قال {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} أي إِنَّ هذا القرآن موعظة بليغة، كافية لا تعاظهم لو أرادوا لأنفسهم السعادة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} أي فمن شاء اتعظ بما فيه، وانتفع بهداه {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي وما يتعظون به إِلا أن يشاء الله لهم الهدى فيتذكروا ويتعظوا، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وترويح عن قلبه الشريف، مما كان يخامره من إِعراضهم وتكذيبهم له {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} أي هو جل وعلا أهلٌ لأن يتقى لشدة عقابه، وأهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته، قال الألوسي: أي حقيقٌبأن يتقى عذابه ويطاع، وحقيقٌ بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه وفي الحديث عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ثم قال "قال ربكم: أنا أهل أن أُتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إِلهاً فأنا أهلٌ أن أغفر له".