سورة اللَّيْل
اختلاف عمل الخلائق وتباين طرقهم
قد أعذر من أنذر
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة اللَّيْل مكية، وهي تتحدث عن سعي الإِنسان وعمله، وعن كفاحه ونضاله في هذه الحياة، ثم نهايته إلى النعيم أو إِلى الجحيم.
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالليل إِذا غشي الخليقة بظلامه، وبالنهار إِذا أنار الوجود بإِشراقه وضيائه، وبالخالق العظيم الذي أوجد النوعين الذكر والأنثى، أقسم على أن عمل الخلائق مختلف، وطريقهم متباين {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى *وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى *إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}.
* ثم وضحت سبيل السعادة، وسبيل الشقاء، ورسمت الخطَّ البياني لطالب النجاة، وبينت أوصاف الأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}.
* ثم نبهت إِلى اغترار بعض الناس بأموالهم التي جمعوها، وثرواتهم التي كدسوها، وهي لا تنفعهم في القيامة شيئاً، وذكَّرتهم بحكمة الله في توضيحه لعباده طريق الهداية وطريق الضلالة {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى *إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}.
* ثم حذَّرت أهل مكة من عذاب الله وانتقامه، ممن كذَّب بآياته ورسوله، وأنذرهم من نار حامية تتوهج من شدة حرها، لا يدخلها ولا يذوق سعيرها إِلا الكافر الشقي، المعرض عن هداية الله {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى* لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}.
* وختمت السورة بذكر نموذج للمؤمن الصالح، الذي ينفق ماله في وجوه الخير، ليزكي نفسه ويصونها من عذاب الله، وضربت المثل بأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى}.
* **
اختلاف عمل الخلائق وتباين طرقهم
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1)وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(3)إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى(11)}.
سبب النزول :
نزول الآية (5):
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى..}: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة): أي بني ! أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء، يقومون معك، ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبتِ، إنما أريد ما عند الله، فنزلت هذه الآيات فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى..} إلى آخر السورة.
نزول الآية (
:
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ }: قال ابن عباس: نزلت في أُمية بن خَلَف.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي أُقسمُ بالليل إِذا غطَّى بظلمته الكون، وستر بشبحه الوجود {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أي وأُقسمُ بالنهار إِذا تجلَّى وانكشف، وأنار العالم وأضاء الكون قال المفسرون: أقسم تعالى بالليل لأنه سكنٌ لكافة الخلق، يأوي فيه الإِنسان والحيوان إِلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب والحركة، ثم أقسم بالنهار لأن فيه حركة الخلق وسعيهم إِلى اكتساب الرزق، والحكمة في هذا القسم ما في تعاقب الليل والنهار من مصالح لا تُحصى فإِنه لو كان العمر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لما سكن الإِنسان إِلى الراحة، ولاختلت مصالح البشر {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} أي وأُقسمُ بالقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى، من نطفةٍ إِذا تمنى .. أقسم تعالى بذاته على خلق النوعين {الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} للتنبيه على أنه الخالق المبدع الحكيم، إِذْ لا يُعقل أن هذا التخالف بين الذكر والأنثى يحصل بمحض الصدفة من طبيعة بلهاء لا شعور لها فإِن الأجزاء الأصلية في المنيّ متساوية، فتكوينُ الولد من عناصر واحدة تارةً ذكراً، وتارة أنثى، دليلٌ على أن واضع هذا النظام عالم، بما يفعل، محكم لما يصنع {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} هذا هو جواب القسم أي إِن عملكم لمختلف، فمنكم تقيٌ ومنكم شقي، ومنكم صالحٌ ومنكم طالح، ثم فسَّره بقوله {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أي فأما من أعطى ماله وأنفق ابتغاء وجه الله، واتقى ربه فكف عن محارم الله قال ابن كثير: أعطى ما أُمر بإخراجه، واتقى الله في أموره {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي وصدَّق بالجنة التي أعدَّها الله للأبرار {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي فسنهيئه لعمل الخير، ونسهّل عليه الخصلة المؤدية لليسر، وهي فعل الطاعات وترك المحرمات {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاستَغْنَى} أي وأمَّا من بخل بإِنفاق المال، واستغنى عن عبادة ذي الجلال قال ابن عباس: بخل بماله، واستغنى عن ربه عزَّ وجل {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي وكذَّب بالجنة ونعيمها {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي فسنهيئه للخصلة المؤدية للعسر، وهي الحياة السيئة في الدنيا والآخرة وهي طريق الشر قال المفسرون: سمَّى طريقة الخير يسرى لأن عاقبتها اليسر وهي دخول الجنة دار النعيم، وسمَّى طريقة الشرِّ عسرى لأن عاقبتها العسر وهو دخول الجحيم {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} استفهام إِنكاري أيْ أيُّ شيء ينفعه ماله إِذا هلك وهوى في نار جهنم ؟ هل ينفعه المال، ويدفع عنه الوبال ؟
قد أعذر من أنذر
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى(13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى(14)لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى(15)الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16)وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى(17)الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى(18)وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى(19)إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى(20)وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21)}.
سبب النزول:
نزول الآية (17):
{ وَسَيُجَنَّبُهَا..}: أخرج ابن أبي حاتم عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة، كلهم يعذب في الله، وفيه نزلت: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} إلى آخر السورة.
نزول الآية (19)}:
{وَمَا لأَحَدٍ.. }: روى عطاء عن ابن عباس قال: إن بلالاً لما أسلم، ذهب إلى الأصنام فسلم عليها، وكان عبداً لعبد الله بن جُدْعان، فشكا إليه المشركين ما فعل، فوهبه لهم، ومئة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ فمرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحدٌ أحدٌ. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر: أن بلالاً يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلاً من ذهب، فابتاعه به.
فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا لِيَدٍ كانت لبلال عنده، فأنزل الله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}.
{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} أي إِنَّ علينا أن نبيِّن للناس طريق الهدى من طريق الضلالة، ونوضّح سبيل الرشد من سبيل الغي كقوله {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} أي لنا ما في الدنيا والآخرة، فمن طلبهما من غير الله فقد أخطأ الطريق {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} أي فحذرتكم يا أهل مكة ناراً تتوقَّد وتتوهج من شدة حرارتها {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} أي لا يدخلها للخلود فيها ولا يذوق سعيرها، إِلاّ الكافر الشقي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذَّب الرسل وأعرض عن الإِيمان {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} أي وسيبعد عن النار التقيُ النقيُّ، المبالغ في اجتناب الشرك والمعاصي .. ثم فسَّره تعالى بقوله {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي الذي ينفق ماله في وجوه الخير ليزكي نفسه {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي وليس لأحدٍ عنده نعمة حتى يكافئه عليها، وإِنما ينفق لوجه الله قال المفسرون: نزلت الآيات في حقِّ "أبي بكر الصديق" حين اشترى بلالاً وأعتقه في سبيل الله فقال المشركون: إِنما فعل ذلك لِيَدٍ كانت له عنده فنزلت {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} أي ليس له غاية إِلا مرضاة الله {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي ولسوف يعطيه الله في الآخرة ما يرضيه وعْدٌ كريم من رب رحيم.