حكيم
الأمة
أبو الدرداء الأنصاري
إنه الصحابي الجليل أبو الدرداء عويمر بن قيس بن
عامر الخزرجي الأنصاري
-رضي الله عنه-، أسلم في غزوة بدر، وقيل إنه آخر مَنْ
أسلم من الأنصار.
ومما يروى في قصة إسلامه، أنه كان عنده صنم في داره، وذات يوم
دخل عليه عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة، فشاهدا الصنم فكسراه إلى قطع صغيرة،
فبدأ أبو الدرداء يجمع القطع المتناثرة من أحجار الصنم، وهو يقول للصنم: ويحك! هلا
امتنعت ألا دافعت عن نفسك؟ فقالت زوجته أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد
لدفع عن نفسه ونفعها.
فقال أبو الدرداء أعدي لي ماءً في المغتسل، ثم قام فاغتسل،
ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي (، فنظر إليه ابن رواحة مُقبلا، فقال: يا رسول الله،
هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فأخبره رسول الله ( أن أبا الدرداء
إنما جاء ليسلم، وأن الله وعد رسوله بأن يسلم أبو الدرداء، وبالفعل أعلن أبو
الدرداء إسلامه، فكان من خيرة الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-.
وشهد أبو
الدرداء مع رسول الله ( غزوة أحد وغيرها من المشاهد، وعرف -رضي الله عنه- بالعفو
والسماحة، ويحكى أن رجلا قال له ذات مرة قولاً جارحًا، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم
يرد عليه، فعلم بذلك
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فغضب وذهب إلى أبي الدرداء
وسأله عما حدث فقال: اللهم غفرانًا، أوكل ما سمعنا منهم نأخذهم به (أي نعاقبهم
ونحاسبهم عليه)؟!
وكان أبو الدرداء تاجرًا مشهورًا، فلما أسلم تفرغ للعلم
والعبادة، وقال: أردت أن أجمع بين التجارة والعبادة، فلم يستقم، فتركت التجارة
وأقبلت على العبادة. ووصف بالشجاعة، حتى قيل عنه: نعم الفارس عويمر. وكان ينطق
بالحكمة، فقيل عنه: حكيم الأمة عويمر.
وكان لأبي الدرداء ثلاثمائة وستون صديقًا،
فكان يدعو لهم في الصلاة، ولما سئل عن ذلك قال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه في الغيب
إلا وكل الله به مَلَكيْن يقولان، ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي
الملائكة؟!
وحفظ أبو الدرداء القرآن في حياة الرسول (، وكان ابن عمر يقول
لأصحابه: حدثونا عن العاقلين: معاذ بن جبل وأبي الدرداء.
وكان من العابدين
الزاهدين، وقد زاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في بيته فلم ير فيه غير فراش من
جلد، وكساء رقيق لا يحميه من البرد، فقال له: رحمك الله، ألم أوسع عليك؟ فقال له
أبو الدرداء: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله (؟ قال عمر: أي حديث؟ قال: (ليكن بلاغ
أحدكم من الدنيا كزاد الراكب) [الترمذي]. قال: نعم، قال أبو الدرداء: فماذا فعلنا
بعده يا عمر؟
وحرص أبو الدرداء -رضي الله عنه- على العلم، وكان حرصه على العمل
بما يعلم أقوى وأشد، وكان ملازمًا للنبي ( حتى قال عنه الصحابة: أتْبَعُنَا للعلم
والعمل أبو الدرداء.
وكان يقول: لن تكون عالمًا حتى تكون متعلمًا، ولن تكون
متعلمًا حتى تكون بما علمت عاملاً، إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما
عملت فيما علمت؟، وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع
مرات.
وكان -رضي الله عنه- يعلِّم الناس القرآن الكريم وسنة رسول الله (، ويحثهم
على طلب العلم، ويأخذ بأيديهم إلى الصواب، فيقول لهم: ما لي أرى علماءكم يذهبون،
وجهَّالكم لا يتعلمون؟! تعلموا فإن العالم والمتعلم شريكان في الأجر.
وذات يوم
مرَّ أبو الدرداء على أناس يضربون رجلاً ويسبونه، فقال لهم: ماذا فعل؟ فقالوا: أذنب
ذنبًا، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في بئر أكنتم تستخرجونه منها؟ قالوا: نعم نستخرجه،
قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، فقالوا له: ألا تبغضه وتكرهه؟
قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي.
ويروى أنه كان مع المسلمين في قبرص،
ففتحها الله على المسلمين، وغنموا خيرًا كثيرًا، وكان أبو الدرداء واقفًا مع جبير
بن نفير، فمرَّ عليه السبي والأسرى، فبكى أبو الدرداء، فقال له جبير: تبكي في مثل
هذا اليوم الذي أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال أبو الدرداء: يا جبير، بينما
هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله فلقوا ما ترى! ما أهون العباد على الله إذ هم
عصوا!
ويحكى أن يزيد بن معاوية تقدم ليخطب ابنة أبي الدرداء فردَّه، فأعاد يزيد
طلبه، فرفض أبو الدرداء مرة ثانية، ثم تقدم لخطبتها رجل فقير عرف بالتقوى والصلاح،
فزوجها أبو الدرداء منه، فتعجب الناس من صنيعه، فكان رده عليهم: ما ظنَّكم بابنة
أبي الدرداء إذا قام على رأسها الخدم والعبيد وبهرها زخرف القصور، أين دينها
يومئذ؟! وكان يقول: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر
علمك، وأن تبارى (تنافس) الناس في عبادة الله تعالى.
وعاش أبو الدرداء حياة
بسيطة يملؤها الزهد والتواضع حتى جاءته ساعة الموت، فقال عند احتضاره: من يعمل لمثل
يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ وكان يقول: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل
حسده. وقد توفي سنة
(32هـ) في خلافة عثمان بن عفان.